في ذكرى كمال الطويل…الموسيقى الذي خلدت الألحان و النغمات اسمه 

 

كتبت/ ماريان مكاريوس 

 

كمال الطويل لم يكن مجرد ملحن. كان ذاكرة وطن تتكلم نغمًا، وصوتًا داخليًّا لثورةٍ لم تكن لتكتمل دون أناشيده. موسيقار رحل عن عالمنا في التاسع من يوليو عام 2003، لكنه ترك أثرًا لا يُمحى على هوية الأغنية المصرية، بين نداء وطني يصدح من حنجرة أم كلثوم، وهمسة حب تتسلل من صوت نجاة الصغيرة، وصرخة ثائر يشق بها عبد الحليم حافظ صمت الخوف إلى فجر الحرية.

 

ثمانية عقود عاشها الطويل، منذ ميلاده في القاهرة عام 1922 وحتى وفاته بعد صراع مع المرض عن عمر ناهز 81 عامًا، ليطوي الرحيل صفحة من أعظم صفحات الموسيقى المصرية والعربية. وقد جاء نبأ وفاته بعد أيام قليلة من منحه جائزة الدولة التقديرية للفنون، وكأن القدر شاء أن يُسلّم الرجل جائزته قبل أن يُسدل الستار على رحلته.

الموهبة المبكرة والعقاب القاسي

 

بدأت الموهبة تُعلن عن نفسها في سنوات الطفولة، عندما رشحه أستاذ الموسيقى لقيادة الفرقة المدرسية في نهاية العام، غير أن الحلم كاد أن يُجهض، حين فاته ارتداء الزيّ الرسمي للحفلة، فعوقب، وابتعد عن الموسيقى لفترة. لحظة صغيرة لكن مؤثرة، تكشف مدى هشاشة الموهبة في وجه السلطة، ولو كانت سلطة المدرسة.

 

لكن النار التي خمدت مؤقتًا، سرعان ما استعادت حرارتها. فالتحق كمال الطويل بمدرسة الفنون التطبيقية، وتخرج عام 1942، ثم عمل في وزارة الشئون الاجتماعية، غير أنه لم يتخلَّ عن حلمه، فالتحق بالصفوف الليلية بالمعهد العالي للموسيقى العربية، ليبدأ من هناك المسار الحقيقي لحياته.

 

في تنقله بين الوظائف الحكومية: من ديوان الموظفين، إلى مفتش هاتف، إلى موظف في مراقبة الموسيقى بالإذاعة، ثم مفتش موسيقى بوزارة التعليم، ظل الطويل يحمل فنه في قلبه حتى لحظة التفرغ عام 1965، ليكرّس نفسه كليًا للتلحين، وتبدأ الرحلة التي ستربط اسمه بتاريخ مصر الحديث.

 

لقاء عبد الحليم… حين يلتقي الحلم بالصوت

 

لا تُذكر الأغنية الحديثة دون أن يُستعاد اسم عبد الحليم حافظ. وبين الاثنين ولدت ثنائية ستصبح علامة فارقة في ذاكرة مصر. في عام 1951، اجتمع الطويل مع عبد الحليم وفادية كامل وأحمد فؤاد حسن في تخرّجهم من معهد الموسيقى العربية. كان الزمن وقتها على موعد مع تغيير كبير، فكانت البداية بأغنية “على قد الشوق”، التي لحنها الطويل لعبد الحليم، لتفتح بوابة ذهبية أمام صوت جديد، وأمام ملحن سيقود الأغنية الوطنية إلى أوجها.

 

لكن الأهم لم يكن في الأغاني العاطفية، بل في تلك الأغنيات التي تغنّت باسم الشعب، وجعلت من الأغنية السياسية مادة فنية وشعبية. فمع الشاعر الكبير صلاح جاهين، كوّن الطويل وعبد الحليم ثلاثيًا مذهلًا، أثمر عن “إحنا الشعب”، و”بالأحضان”، و”صورة”، و”حكاية شعب”. كانت هذه الأغنيات ليست مجرد ألحان، بل وثائق ثورية، ووسائل تعبئة، وأحلامًا تُغنى في صوت حليم المبحوح، ونغم الطويل الرفيع.

والله زمان يا سلاحي”… حين تتكلم مصر

 

لعل أبرز ما تركه الطويل للوطن كان تلحينه للنشيد الخالد: “والله زمان يا سلاحي”، الذي غنّته أم كلثوم، واختاره الرئيس الراحل جمال عبد الناصر ليكون نشيدًا وطنيًا لجمهورية مصر العربية. وقد ظل النشيد يُعزف رسميًا حتى تغييره لاحقًا في عهد أنور السادات، ليحل محله “بلادي بلادي” لسيد درويش. ومع ذلك، ظل نشيد “زمان يا سلاحي” مرتبطًا بالذاكرة القومية لمصر، رمزًا لقوة الصوت حين يتحول إلى مقاومة.

 

كان كمال الطويل في هذا النشيد يخرج عن إطار الأغنية إلى فضاء المعركة، يجعل اللحن جبهة، والكلمات ذخيرة، والغناء سلاحًا بالفعل.

 

لكن كمال الطويل لم يكن صاخبًا فقط. كان يعرف متى يهمس، و متى يصخب. كان حريصًا على تقديم الرقة كما قدّم القوة، لذلك لحّن عشرات الأغنيات للفنانة نجاة الصغيرة، أشهرها “أما براوة”، و”عيون القلب”، و”اسأل روحك”، وغيرها. كذلك تعاون مع فايدة كامل، ومحمد قنديل، وكتب لنفسه سطرًا موازيًا في الأغنية العاطفية، دون أن يتخلى عن عمق الجملة الموسيقية وأناقتها.

اعتزل التلحين لفترة كبيرة و لكنه عاد ليلحن مجاملة للمخرج يوسف شاهين في فيلم (المصير) بموسيقى غير اعتيادية حتى ان إذاعة الاغاني المصرية اعتمدت لحنه شارة له بعبارة، في إذاعة الاغاني تسمع… و كأنك تشدو.

لقد جمع الطويل بين بساطة السهل الممتنع، وغنى المقامات الشرقية، فكان أنيقًا دون تعقيد، وعميقًا دون افتعال، يمسك بيد المستمع من أول نغمة، ويقوده إلى نهاية اللحن بلا شعور بالزمن.

 

في مفارقة تُشبه الختام المسرحي، نال كمال الطويل جائزة الدولة التقديرية للفنون قبل وفاته بأيام قليلة. ربما تأخر التكريم، وربما جاء في وقته، لكن المؤكد أن الرجل لم يكن بحاجة إلى جائزة كي يعرف قيمته. كانت الشوارع تردّد ألحانه، والمظاهرات تهتف بما لحّنه، والعشاق يهمسون بأغانيه. ما الجائزة أمام كل هذا التاريخ؟ و لكنها تبقى تعبير عن العرفان الموهبة و العطاء.

 

رحيل الجسد… وبقاء النغمة

في لحظة رحيله، لم تبكِ مصر فقط رجلاً أبدع لحنًا، بل ودّعت ذاكرةً كاملة. فالرجل لم يكتب مجرد ألحان، بل لحّن روح مصر في أصعب وأجمل لحظاتها. لقد كان صوته الثاني، وجهها الموسيقي، وسلاحها الأنيق.

 

بقي لنا من كمال الطويل أرشيفٌ غنيٌّ، وأسطوانات لا تشيخ، ونوتات تتعلم منها الأجيال. أما هو، فقد ذهب في هدوء يليق بشخصه، لكن صوته لا يزال يُسمع في شوارع القاهرة كلما قال أحدهم: “إحنا الشعب… أقوى من اللي يعادينا”.

كاتبة المقال/ الأستاذة ماريان مكاريوس

قد يعجبك ايضآ
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.