قراءة القرآن وإهداء ثوابها للأموات
قراءة القرآن وإهداء ثوابها للأموات
بقلم فضيلة الشيخ أحمد على تركي
شعبان فضائل وأحكام بقلم فضيلة الشيخ أحمد على تركي
▪️ مدرس القرآن الكريم بالأزهر الشريف
في البداية أذكّر بالقاعدة الذهبية التي تقول :
(لا إنكار فيما فيه خلاف)
أي لا يُنكر بعضنا على بعض في المسائل التي فيها اختلاف سائغ ( مقبول ) بين العلماء المجتهدين الثقات (وليس الخلاف القائم على الأهواء بلا مستند شرعي ، وليس كلام أي أحد أيضاً مهما كانت شهرته ) .
لا مانع أن يُقلد العامي أيّاً من العلماء المعتبرين ولكن نوسع صدورنا لاختيار غيرنا ، ونوفر طاقاتنا النفسية والعصبية لما هو أخطر من قضايا الدين والدنيا .
القرآن كتاب للحياة والأحياء نزل ليحكم حياتنا كلها،ولا يجوز للمسلم أن يهجره تلاوةً وتطبيقاً ثم ينتظر أن يتسولّ تلاوته بعد مماته .
القضايا السابقة فيها خلاف علمي وارد ، وإليكم التفصيل :
قراءة القرآن عند القبر :
قال ابن أبي العز الحنفي في شرح العقيدة الطحاوية ص ٤٥٨ :
“واختلف العلماء في قراءة القرآن عند القبور على ثلاثة أقوال:
هل تُكرَه ، أم لا بأس بها وقت الدفن، وتكره بعده؟
فمن قال بكراهتها كأبي حنيفة ومالك وأحمد في رواية .
قالوا :
لأنه مُحدَث لم ترِد به السنة، والقراءة تشبه الصلاة، والصلاة عند القبور منهيّ عنها فكذلك القراءة .
ومن قال : لا بأس بها كمحمد بن الحسن وأحمد – في رواية (ثانية )- استدلوا بما نقل عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه أوصى أن يُقرَأ على قبره وقت الدفن بفواتح سورة البقرة وخواتمها، ونقل أيضاً عن بعض المهاجرين قراءة سورة البقرة.
ومن قال :
لا بأس بها وقت الدفن فقط، وهو رواية عن أحمد أخذ بما نقل عن ابن عمر وبعض المهاجرين.
وقال النووي في “رياض الصالحين” :
” قال الشافعي رحمه الله :
ويُستحب أن يُقرأ عنده شيءٌ من القرآن ، وإن ختموا القرآن عنده كان حسنًا “
وقال البهوتي من الحنابلة :
ولا تُكره القراءة على القبر و لا في المقبرة بل تستحب .
وقال ابن مُفلح :
ولا تكره القراءة على القبر في أصح الروايتين .
حكم إهداء ثواب القراءة للميت من أي مكان
الفريق الأول وهم الجمهور :
أبو حنيفة ومالك وأحمد وكثير من فقهاء الشافعية يرون وصول ثواب قراءة القرآن للميت.
قال الشوكاني :
وهذا هو القول الأرجح دليلاً .
الفريق الثاني :
ما ذهب إليه الشافعي( ومعظم سلفية العصور الحديثة ) قالوا :
يلحق الميت من فِعل غيره وعمله ثلاثة :
حج يُؤدَّى عنه ، ومال يُتصدق به عنه أو يقضى عنه ، ودعاء .
فأما ما سوى ذلك من صلاة أو صيام فهو لفاعله دون الميت .
إلا أن كثيرا من فقهاء الشافعية خالفوهم وقالوا بوصول ثواب القراءة للميت .
قال الإمام النووي:
“والمشهور في مذهبنا -أي مذهب الشافعي- أن قراءة القرآن للميت لا يصله ثوابها .
وقال جماعة من أصحابنا :
يصله ثوابها وبه قال أحمد بن حنبل .
صحيح مسلم بشرح النووي ج ٧ ص ٩٠
وقال ابن قدامة الحنبلي في الاحتجاج لوصول ثواب قراءة القرآن للميت قال:
“وهذه أحاديث صحاح، وفيها دلالة على انتفاع الميت بسائر القُرب( أي القربات والطاعات ) ، لأن الصوم والحج والدعاء والاستغفار عبادات بدنية قد أوصل الله نفعها إلى الميت ، فكذلك ما سواها مع ما ذكرنا من الحديث في ثواب من قرأ سورة (يس) وتخفيف الله -تعالى- عن أهل المقابر بقراءته ، ولأنه إجماع المسلمين ، فإنهم في كل عصر ومصر يجتمعون ويقرأون القرآن ويهدون ثوابه إلى موتاهم من غير نكير” .
المغني ج٢ ص ٥٦٨
وقد صرح الحنفية بانتفاع الميت بإهداء ثواب قراءة القرآن له .
جاء في “الدر المختار ”:
“ويقرأ سورة (يس) لما ورد :
من دخل المقابر فقرأ سورة (يس) خفف الله عنهم يومئذ ، وكان له بعدد من فيها حسنات” .
الدار المختار ورد المحتار ج٢ ص٢٤٢
وقال ابن نجيم :
والأصل فيه أن الإنسان له أن يجعل ثواب عمله لغيره صلاة أو صوما أو صدقة أو قراءة قرآن أو ذكراً أو طوافاً أو حجا أو عمرة أو غير ذلك عند أصحابنا
وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أن في هذه المسألة قولين للعلماء، ثم رجح القول بوصول ثواب قراءة القرآن للميت فقال تعالى:
“وأما الصيام وصلاة التطوع وقراءة القرآن فهذا فيه قولان للعلماء :
الأول :
ينتفع به وهو مذهب أحمد وأبي حنيفة وغيرهما.
الثاني :
لا تصل إليه وهو المشهور في مذهب مالك.
وقال أيضاً :
وتنازعوا في وصول الأعمال البدنية :
كالصوم والصلاة وقراءة القرآن .
والصواب أن الجميع يصل إليه أي يصل ثوابها إلى الميت” .
مجموع الفتاوى ج٢٤ ص٣١٥، ص٣٦٦ والاختيارات العلمية ص ٥٤
مع التنبيه إلى أن ابن تيمية وجمهور الفقهاء رفضوا أن تكون القراءة بأجر أو مقابل مادي حيث يأخذ القارئ أجره فلا يبقى له ما يُهديه لغيره ، كما رفض ابن تيمية القراءة عند القبر .
وقد أطال تلميذه ابن القيم في كتاب الروح وغيره في بيان جواز المسألة ورد أدلة المعترضين أو الذين فرقوا بين العبادات البدنية والمالية ( وهو نفس ما فعله ابن أبي العز في شرح الطحاوية ) كما وضحوا أهم دليل للمعترضين وهو قوله تعالى ( وأن ليس للإنسان إلا ما سعى ) بالأدلة الثابتة التي تفيد انتفاعه بسعي وعمل غيره – إذا وهبه له – فالنفي إنما هو لـ ( ملكية العمل ) وليس نفي الانتفاع به ، وكذلك حديث ( إذا مات الإنسان انقطع عمله ) .
قال ابن القيم رحمه الله :
وأما قراءة القرآن وإهداؤها له تطوعاً بغير أجرة فهذا يصل إليه كما يصل ثواب الصوم والحج .
فإن قيل هذا لم يكن معروفاً في السلف ولا يمكن نقله عن واحد منهم مع شدة حرصهم على الخير ولا أرشدهم النبي ﷺ إليه وقد أرشدهم إلى الدعاء والاستغفار والصدقة والحج والصيام فلو كان ثواب القراءة يصل لأرشدهم إليه ولكانوا يفعلونه .
فالجواب :
أن مُورد هذا السؤال إن كان معترفاً بوصول ثواب الحج والصيام والدعاء والاستغفار قيل له:
ما هذه الخاصية التي منعت وصول ثواب القرآن واقتضت وصول ثواب هذه الأعمال ؟
وهل هذا إلا تفريق بين المتماثلات ؟
وأن من لم يعترف بوصول تلك الأشياء إلى الميت فهو محجوج بالكتاب والسنة والإجماع وقواعد الشرع .
وأما السبب الذي لأجله لم يظهر ذلك في السلف فهو أنهم لم يكن لهم أوقاف على من يقرأ ويهدي إلى الموتى ، ولا كانوا يعرفون ذلك ألبتة، ولا كانوا يقصدون القبر للقراءة عنده كما يفعله الناس اليوم، ولا كان أحدهم يُشهد من حضره من الناس على أن ثواب هذه القراءة لفلان الميت بل ولا ثواب هذه الصدقة والصوم.
ثم يقال لهذا القائل :
لو كُلفت أن تنقل عن واحد من السلف أنه قال :
اللهم ثواب هذا الصوم لفلان ، لعجزت ، فإن القوم كانوا أحرص شيء على كتمان أعمال البر فلم يكونوا يشهدون على الله بإيصال ثوابها إلى أمواتهم .
فإن قيل :
إن رسول الله ﷺ أرشدهم إلى الصوم والصدقة والحج دون القراءة قيل :
هوﷺ لم يبتدئهم بذلك بل خرج ذلك منه مخرج الجواب لهم فهذا سأله عن الحج عن ميته فأذن له، وهذا سأله عن الصيام عنه فأذن له وهذا سأله عن الصدقة فأذن له ، ولم يمنعهم مما سوى ذلك وأيّ فرق بين وصول ثواب الصوم الذي هو مجرد نية وإمساك وبين وصول ثواب القراءة والذكر .. ؟
ويرى الشيخ ابن عثيمين رحمه الله جواز إهداء ثواب القراءة للميت ، وأن ذلك يصله وينتفع به إن شاء الله ، والذي منعه هو الاجتماع عند القبور والقراءة عليها ، وأن الأولى اجتناب لفظ الفاتحة على روح فلان ونحوها من الألفاظ المحتملة التي اشتهرت عن بعض الناس .
قال الدكتور عبد الله الفقيه :
وهذا الذي قاله الشيخ هو مذهب الجماهير من أهل العلم والمحققين ، وانظر فتوى الشيخ في كتابه مجموع فتاوى العقيدة المجلد الثاني ص ٣٠٥.
وفي فتاوى ابن باز نقل الرأيين أيضا وذكر اختلاف العلماء في المسألة .
نقطة أخيرة وهي :
لكي يصل الثواب إلى الميت فإن له طريقين:
أحدهما :
أن يُعقب القراءة بالدعاء للميت لأن الدعاء يلحقه، والدعاء بعد القراءة أقرب إجابة وأكثر بركة .
والثاني :
ذكر الشيخ عبد الكريم السالوسي أنه إن قرأ ثم جعل ما حصل من الأجر له – أي للميت – فهذا دعاء بحصول ذلك الأجر للميت فينفع الميت .
وفوق ذلك أن يكون القارئ مخلصاً مقبولاً حريصاً على نفع الميت ، لا من المُتكسبين بالقرآن أو المبتدعين في القراءة .
والله أعلم .