قصة جنة إبليس

قصة جنةُ إبلييس

بقلم الروائي رياض حلايقة
وقفتْ  أمامهُ بكلِّ ألَقِها، فوجهُها النضرُ وعيناها اللوزيَّتانِ السوداوان جعلتاهُ شعلةً من نارٍ, تناسَى ملابسَها البسيطةَ بلْ تخيَّلَها بثوبٍ ورديٍّ أنيقٍ من النوفيتة الذي يملكُهُ؛ فكانتْ حوريَّةً من الجنَّةِ، نظرَ إليها نظرةً شيطانيَّةً, بكلامٍ معسولٍ أخرجَ الماردَ من قُمقُمِهِ, ذكَّرَها بحياتِها البائسةِ مع رجلٍ شريفٍ, فقيرِ الحالِ, وأدخلَ في عقلِها أنَّها أميرةٌ يجبُ أنْ تعيشَ في قصرٍ منيفٍ مع خدمٍ وحشمٍ, وأنْ ترَى العالمَ من حولِها فتسافرَ هنا وهناك؛ لتعيشَ حياتَها منعَّمةً مُكرَّمةً مع رجلٍ يُقدِّرُ جمالَها ويعرفُ قدْرَها, أصابَ الهدفَ بقوَّةِ قنبلةٍ نوويَّةٍ؛ أحدثتْ شرخًا هائِلًا في قلبِها, وجعلتْها كنمِرَةٍ في قفص.ٍ .
زوجُها يعملُ في كسَّارةٍ, يعودُ إلى البيتِ تعبًا, مُغبرًا, رائحتُه كرائحةِ الترابِ, كانتْ تستقبلُهُ بابتسامةٍ, تحرصُ على راحتِه دومًا, أمَّا الآنَ تبدَّلتْ الأحوالُ, تغيَّرتْ المصالحُ والنظرةُ للحياةِ, أهملتْهُ تدريجيًّا, أخذتْ تقسو عليهِ, تُسمعُه كلامًا مُرًّا, تُشعرُهُ بفقرِهِ… بعجزِهِ, تُذكِّرُهُ أنَّها مُجرَّدُ خادمةٍ بلْ سجينةٍ في بيتِه الحقيرِ المستأجَر.ِ .
كانَ يتودَّدُ لها, يُلاطفُها, عساها تعودُ لرُشدِها, وأخيرًا طلبتْ الطلاقَ, وأصرَّتْ عليهِ, ذلك الذي أدمَى قلبَهُ, جمعَ أولادَه وبناتَه الأربعَ بينَ يديهِ, حزينًا تكادُ الدمعةُ تذرفُ من مٌقلتيهِ مُخبرًا إيَّاها بحبِّهِم لها, وأنَّهم بحاجتها, حاولَ أن يعرفَ سببًا مُقنعًا… ولكن دونَ جَدوى, تَوَسَّلَ الزوجُ, بكَى الصغارُ, أخذتْ حقيبتَها غادرتْ حانقةً غاضبةً. .
توسَّطَ الأهلُ والأصدقاءُ, بقيتْ مُصِرَّةً على موقفِها, وأمامَ عينيها جنةُ إبليسَ؛ لتنعمَ بطعمِ الفاكهةِ المُحرَّمةِ علَى أمَلِ الخلودِ في النعيمِ الموعودِ, هدَّدَتْ وتوعَّدَتْ؛ حتَّى حصلتْ عليهِ, شعرتْ بأنَّها طيرٌ طليقٌ يحلِّقُ في فضاءٍ رحبٍ لا حدودَ لهُ. .
تزوَّجَ طليقُها بعدَ أن فقَدَ الأَمَلَ في عودتِها, لم يسمحْ لها بزيارةِ الأبناءِ في منزلِهِ؛ فلمْ تكترثْ, ثُمَّ اختفتْ العائلةُ فجأةً.
وقفتْ أمامَهُ بكلِّ ألَقِها, تبسَّمتْ له, سرَى إحساسٌ غريبٌ في جسدِهِ, علمَ أنَّها حصلتْ على الطلاقِ وانقضَتْ عِدَّتُها؛ فانفرجَتْ أساريرُهُ, أجلسَها مكانَه, سَحَرَها بالثيابِ الأنيقةِ والحُليّ اللامعةِ, استأجَرَ لها شقَّةً مفروشةً في الجاردنز, سافرتْ معه إلى تركيا في شهرِ عسلٍ جميلٍ لم تحلُمْ به يومًا, بل كان حلمًا بعيدَ المَنالِ, مطالبُها مُجابةٌ, سهراتٌ جميلةٌ, تنامُ على ريشِ النَّعامِ حتَّى وقتٍ مُتأخِّر.ٍ .
علمتْ أنَّ زوجَها التاجرَ الساحرَ يملكُ منزلاً جميلاً من شقَّتينِ، وعلمتْ أنَّه مُتزوِّجٌ من امرأتينِ ولهُ من الأولادِ عشرًا, لم تكترثْ لذلكَ؛ فهيَ تعيشُ حياتَها بكلِّ معانيها, ثيابُها الفاخرةُ تُرسَلُ إلى دراي كلين كلَّ أسبوعٍ, طعامُها يأتي إليها من المطعمِ المُجاورِ أحيانًا, وغالبًا ما تتناولُه مع زوجِها في سهراتٍ حمراءَ .
وقعَ المحظورُ, تأثَّرتْ البلادُ بما يدورُ في العالَمِ من نكَساتٍ ماليَّةٍ واقتصاديَّةٍ؛ انتكستْ تجارةُ الزوجِ, أرسلَ البنكُ إشعاراتٍ مُتتاليَةً مُطالبًا إيَّاهُ بتسديدِ الديونِ المُتراكمةِ, أخيرًا باعَ البنكُ منزلَه الجميلَ في مزادٍ علنيٍّ, لم يستطعْ دفعَ أُجرَةَ الشُّقَّةَ المفروشةَ؛ استأجَرَ منزلًا مُتواضِعًا، زَجَّ فيه نساءَهُ الثلاثَ وأبناءَهُ الأثنا عشر.

المزيد من المشاركات

يتبع – جنة ابليس — كلَّ صباحٍ يستيقظُ الجميعُ على صِياحِ الأطفالِ ومعارِكِهم التي لا تنتهي, تتقاتلُ النساءُ بسببٍ وبدونِ سببٍ, بالكادِ يحصلُ الواحدُ منهم على طعامٍ يسدُّ رمقَهٌ .
شعرتْ الزوجتانِ السابقتانِ أنَّها السببُ في تدهورِ الأحوالِ؛ لأنَّهُ أنفقَ عليها الكثيرَ من الأموالِ, اتَّفقتا عليها فضربتاها ونقلتا كلامًا للزوجِ عن كسلِها وعِنادِها؛ تغيَّرتْ معاملةُ الزوجِ لها, همومُهُ ومشاكلُهُ الماديَّةُ العصيَّةُ على الحلِّ جعلتْهُ لا يهتمُّ لأحدٍ .
تآمرتْ الزوجتانِ على إذلالِها فتركتا المنزلَ, بقيتْ تعملُ في البيتِ حتَّى كلَّتْ, وعندَ عودتِهما أخذَتا تلومانِها على إهمالِها وعدمِ إعدادِ الطعامِ للصغارِ, تقاتلْنَ وانهالتا عليها بالضربِ؛ فخرجتْ من المنزلِ قسرًا, جلستْ عندَ البابِ على ناصيةِ الشارعِ تنتظرُ الزوجَ, لكنَّه دخلَ المنزلَ كأنَّه لم يرَها؛ ممَّا زادَ في ألَمِها وعذابِها, تَذكَّرتْ حياتَها مع زوجِها السابقِ, كانتْ ملكةَ منزلِها, الزوجُ لها وحدَها, طلبتْ من زوجِها أن تذهبَ إلى منزلِ أخيها تلكَ الليلةَ فلمْ يُمانعْ .

أخبرَها شقيقُها أنَّ طليقَها قد حصلَ على عملٍ في إحدَى دولِ الخليجِ، وأنَّه اتَّفقَ مع صاحبِ العملِ أن يُزوِّدَه بالحجارةِ, أنشأَ مِنشارًا للحجرِ, أخذَ يُرسلُ السيارةَ تِلوَ الأُخرى إلى البلادِ المجاورةِ, بعدَ عامٍ اشترَى أرضًا، وبعدَ عامٍ آخرَ بنى منزلًا من طابقينِ .
ثُمَّ أنَّبَها على تركِ زوجِها السابقِ وأبنائِها, أذهلَها ما سمعتْ؛ توسَّلتْ إليهِ أن يأخذَها بسيارتِه إلى هناك؛ فشاهدتْ عجبًا, ذُهلتْ عندما رأتْ أحدَ أبنائِها يقفُ في الشرفةِ, حاولتْ الدخولَ فمنعَها الأخُ, تندَّمتْ وتحسَّرتْ, لم يحنُ النومُ عليها تلكَ الليلةَ, بقيتْ تبكي حظَّها, وقلَّةَ عقلِها, وعدمَ القناعةِ بما عندَها؛ فساءتْ حالتُها وتدهورتْ صحتُها وعاشتْ تنتظرُ الموتَ أو يُغيِّرُ القدَرُ حياتَها

قد يعجبك ايضآ
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.