قصة قصيرة : العسل المر

للقاص / بختي ضيف الله – الجزائر

تزوج تلك الجميلة، ابنة ذاك الرجل الثري، صاحب الكلمة المسموعة بين الناس.
كانت رفيقته في الدراسة، تحترمه لأخلاقه العالية التي كان يتميز بها عن أترابه من الطلبة، رغم أنه لم يكن موفقا في الوظائف الحكومية، فتعلم مهنة أخرى قاسية جدا ليفتح بيتا و هي التي لا تجد حلاوة العيش ما لم يكن من عرقه ومجهوده المبذول، لا تمد يديها إلا ليديه الخشنتين من أثر أعماله الشاقة، وهو يقلب القوالب الحجرية، ذات النتوءات.
-أي امرأة هذه؟، تركت الثراء والعيش الرغد، لماذا لم تتزوج ثريا مثل أبيها ؟..
يحدث نفسه عندما ينظر في عينيها الذابلتين كل صباح، قبل أن يذهب إلى عمله.
طَرَقات صاحب البيت مع نهاية كل شهر تؤرقه وتكسر كبرياءه وتعصر قلبه وتضيق من نفسه، لكنه لا يخبرها بما يؤلمه. يدخل بيته كل مساء باسم الثغر، رافع الرأس كأنه لم يصب بنصب.
قد تقسو الحياة كثيرا على أمثالك، لتخرجك عن سكة الشرف الذي تتغنى به وتحاول أن تغرسه في أولادك وبين من تحب من الناس.
في يوم ما تجد نفسك مهزوما؛ لا أحد يقدر ما تقدمه في هذه الفضاء، لأنك تمردت على هذه القوانين التي جاء لتقهرك ! ..انتصارك ليس في صبرك على أقدامهم التي تدوس كل يوم !

يزوره أبوه كل جمعة، يتفقد أحواله، ويسأل عن الطارق الذي ألِف الباب،لا يستحي من طرقه المتكرر !
ينصرف بعد أن يلعب مع الأولاد، و يرتشف معهم قهوتهم المسائية دون أن يجد أثرا للحاجة، كل الأشياء مرتبة ترتيبا لا تجده في بيوت أصحاب الفخامة، رغم رائحة الفقر التي تملا المكان.
هكذا يفعل –أيضا- أبو زوجته في بعض الصباحيات قبل أن يذهب إلى العمل، لا يشرب قهوتها ذات الدرجة الثانية، مشفقا عليها وعلى عائلتها، لكنه يتعبها بالأسئلة المكررة..قبل أن يترك لها ولأولادها كيسا صغيرا من الحلوى التي تحبها منذ الصغر.
– هل تحتاجون شيئا ما؟
-لا نحتاج أي شيء، أدع لنا بالخير..
ينصرف غاضبا لأنه يشعر أنها تخبئ أشياء كثيرة، هو يعلم أنها متمردة.
بعد أربعة أشهر من الانتظار ، وبعد أن جفّ عرقه ويبس، يستلم راتبه المر، ليسدد ديونه التي عليه، المشتتة لدى أصحاب المحلات التجارية، يدخل عليها بقفتين من الخضر والفواكه، وبألبسة جديدة، ليدخل سرورا إلى بيته، يتناول الأولاد حبات البرتقال بشراهة،فتنهرهم هي أن لا يأكلوا كما تأكل البهائم.
– دعيهم، يا امرأة، إن هذه المشهد من الصعب تكراره.
تأملا في طريقة أكلهم، وشبعا لمّا شبعوا، وابتسما حين ابتسموا.
لكن نظراتها تجاهه تحمل الشك، كأنه يخفي شيئا ما، تحاول أن تسأله، لكن يحبسها حابس الاحترام والتقدير.
– ترى ماذا يخفي بين ضلوعه التي أنهكها التعب؟
في كل ليلة يطرق الباب شخص لم يفصح عن اسمه ولا عن سبب مجيئه إليه، يترك وجهه المحمر كقطعة فحم في كومة من رماد قديم.
ربما سيخرجه ابنه الأكبر بعدما تخرج من الجامعة من الوحل الذي هو واقع فيها.
-راتب ابني سيمكنني من شراء بيت ، يأوي عائلتي، وأسدد ديوني التي نقضت ظهري..
التقى كل الأقرباء عنده، محتفلين بتخرج ابنه، امتلأ البيت عن آخره.
جاؤوا بالهدايا وبكل أنواع الحلوى المتوفرة في المدينة، على وجوههم الفرح والسعادة لأنه رجل يستحق أن يكرم في هذا العالم الذي أذله وكسر كبرياءه وهو الذي أحب الخير للناس كما يحبه لنفسه..
ما أروع حين تغمس روحك في حوض الغبطة والسرور لتشفى من جراحاتها المتوالية عبر السنين وتبطل الآهات التي تحتفظ بذكراها وسائده.. !!
ما أروع حين تمشي حرا طليقا، لا تخاف رصاصات هؤلاء لأنها لا تميتك، الذين يحاولون تلطيخ صورتك بألوان لا تناسب خلفيتك البيضاء.
طَرَقات قوية تكاد تقتلع الباب، تخترق الضجيج لتوقفه كما بدأ..صوت منكر، ألفته أذنه..
– أخرج من ملكي أيها المنافق..أخرج ..وإلا استدعيتُ الشرطةَ ليخرجوك بالقوة..يا منا فق..
نظرتْ زوجتُه في عينيه وقرأت رسائله المشفرة..
لكنها تعلم أنه لم يشركها في همه حتى لا يقتلها اليأس وتلتهمها الكآبة كما تأكل النار الهشيم.
خرج أبوها غاضبا..محمرا وجهه..بينما طأطأ أبوه رأسه..ليدسه في التراب !..
تجمع الجيران عند الباب، بين حزين لما حلّ به ، وبين شامت، ينتظر لحظة سقوطه..ليسن سكين حقده الدفين فيذبح كبرياءه من الوريد إلى الوريد.
انصرف المدعوون من الأقارب إلى ديارهم والحزن يملأ الصدور..
في المساء ..أحضر أبو زوجته شاحنة كبيرة لتحمل الأثاث وسيارة لتنقلهم إلى بيت صغير هو من ممتلكاته الكثيرة المنتشرة في أحياء المدينة الكبيرة..
خرج من الحي الذي أحبه هو و زوجته و أولاده. كان يتمنى أن يخرج منه رافع الرأس إلى بيتٍ، يبنيه أو يشتريه بعرق الجبين..فأطبقت عيناه على الذبول..
بعد مرور عام، غربت شمس صاحب البيت، لتطلع في العالم الآخر..في عالم أجمل..هكذا تمنى هو..
وأشرقت شمسه هو..لقد تملّك البيت الذي أخرج منه ذات مساء، بعد وصية أوصى بها الراحل.. فليس له وريث..

قد يعجبك ايضآ
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.