قوة النصوص المسرحية وضعف الدراما التلفزيونية دفع الكثير من الممثلين إلى الإتجاه نحو المسرح

بقلم المؤرخ الفني د. أحمد عبد الصبور

الفن … يعد الفن من أهم الأشياء التي تساهم في خلق الإبداع في هذا العالم وتعزز القيم الجمالية ، ولا شك أن الفن بحد ذاته يوصل فكرة معينة بطريقة إبداعية ، وذلك بإستخدام وسائل عدة ، مثل : الأدب ، والمسرح ، والسينما ، والرسم ، والموسيقى ، والغناء ، ومنها ما يعتمد على اللغة ، ومنها ما يعتمد على آلات معينة مثل الموسيقى ، كما أن منها ما يعتمد على الإنسان واللغة والآلات معاً ، لذا فإن الفنون تختلف فيما بينها .

وهنا أتذكر ما قاله رائد المسرح الروسيأنطون بافلوفيتش تشيخوف ” حين قال   :

” ليس هناك من فن أو علم يستطيع التأثير في النفس البشرية بتلك القوة والصدق كالمسرح “ .

إن المسرح جامع لكل الفنون …  لذلك دائماً تتردد عبارة أن ” المسرح أبو الفنون ” ، وذلك لأنه تاريخياً قد خرج من رداء الشعر ( الأدب ) ، ومع ذلك يظل ” المسرح ” هو أطول الفنون عمراً وأكثرها تأثيراً وقدرة على تحقيق تلك العلاقة المباشرة مع المشاهدين ، تلك العلاقة التي تفتقدها جميع الفنون الأخرى بكل ما تملكه من وسائل حديثة للإبهار تسهل إمكانية الوصول والتواصل مع المتلقي .

ويحسب للمسرح بإعتماده على لغة الحوار وعلى الحبكة الدارمية محكمة الصنع والتي يلعب فيها ” الصراع ” دوراً أساسياً في تصاعد أحداثها … أنه قد ظل طوال مسيرته القلعة الحصينة للحرية ، وذلك بإعتماده على صياغة وتقديم الرأي والرأي الآخر وتناول كافة وجهات النظر بما يحقق متعة فكرية كبرى تفتقدها جميع الأشكال والقوالب الدرامية الأخرى التي قد تهتم بدرجة أكبر بالشكل دون المضمون وبتفاصيل الأحداث الدرامية ومدى تأثر الشخصيات المحورية بها وتأثيرها فيها .

أن ظاهرة ” المسرح ” لا تتحقق إلا بثلاث عناصر أساسية وهي : النص ومن يقوم بتقديمه ( المرسل ) ، وجمهور المشاهدين ( المستقبلين )، ثم المكان الذي يجمع بين كل من الطرفين الأول والثاني ( وسيلة التواصل ” المسرح ) .

وهنا نسلط الضوء عن النص فإننا نعني ” الفكر والمعالجة ” بصفة عامة ، أن جميع الأشكال والقوالب المسرحية بتعددها والإختلافات الكبيرة فيما بينها لا يمكنها أن تحقق النجاح المنشود دون الإعتماد على نص محكم البناء ويتضمن خطاب درامي واضح وجاد ، فبدون النص الجيد يتحول العرض مهما كان ممتعاً إلى مجموعة تابلوهات غنائية أو رقصات وإستعراضات أو إسكتشات كوميدية يضيع تأثيرها فوراً بمجرد إنتهاء العرض دون أي تأثير حقيقي في وجدان المشاهد ، ولكن قيمة العروض الحقيقية تتحدد بمدى قدرتها على إثارة خيال المشاهد وإثراء وجدانه وأيضاً بقدر ما تثيره من قضايا تجعله يعيد تفكيره وحساباته وترتيب أولوياته في كثير من الأمور التي تحيط به ، أو بتعبير آخر ترتقي به فكرياً وتسمح له بإسقاط كثير من الأفكار والمعاني على حياته المعاصرة ومشاكله الحياتية .

وبالرغم من الأهمية القصوى للنص المسرحي بوصفه العمود الفقري للعرض المسرحي فإن هذا لا يقلل أبداً من أهمية دور المخرج أو باقي العناصر الإبداعية الأخرى ، فكما سبق القول بأن المسرح جامع لكل الفنون ، لذلك فإن المسرح يجب أن يحقق كل من المتعة السمعية والبصرية ، وذلك عن طريق تكامل جميع عناصر ” السينوغرافيا ” ( الديكور ، الملابس ، الإكسسورات ، المكياج ، الإضاءة ) مع الموسيقى والألحان والمؤثرات الصوتية .

يختلف المسرح والسينما عن بعضهما البعض إختلافًاً واسعاً مع تشابه الأفكار المعروضة في محتواهما على الأغلب ؛ إلا أن التجربة في حد ذاتها مختلفة كل الإختلاف ، إذ يتمتع الحضور في المسرح بشيء من الترقب الجماعي والتقدير للممثلين وأدوارهم بينما يطغى غياب الحواس على المشاهدين في السينما ، كما لا توجد خصوصية كافية لدى الممثلين على منصة المسرح ، ويعود ذلك إلى ما يتّسم به المسرح من الوضوح والعاميّة ، إذ تُصوّر الأحداث بصدق أمام الناس .

أما السينما فلها خصوصيتها في التعبير ، على إعتبار أن الممثل لا يواجه الجمهور كما في حال التمثيل على المسرح ، وهذا بسبب إختلاف محاكاة الحقيقة في السينما عن المسرح .

إن الحقيقة المصطنعة في السينما تختلف عنها في المسرح ؛ ففي المسرح يكون الممثل واقفًاً أمام الجمهور ويتحرك على الخشبة ، أما الممثل في السينما فهو صورة مطبوعة غير مباشرة ، وهذا يعطيه الفرصة في الإندماج مع المكان وتوحيد العناصر جميعها قبل تقديم المحتوى إلى جمهوره .

في السنوات الأخيرة لوحظ توجه العديد من الممثلين نحو المسرح ويرجع ذلك لعدة أسباب أهمها :

إنّ قلة الإنتاج التلفزيوني الخاص بالأعمال الدرامية التلفزيونية ، دفع الكثير من الممثلين إلى الإتجاه نحو المسرح مؤخراً للمشاركة في الأعمال المسرحية التي كانت البديل القائم للإستمرار في أعمالهم الفنية بكل حرية وبدون قيود .

يأتي هذا أيضاً في ظلّ تماطل الأعمال السينمائية مع المنتجين والمخرجين في الموافقات على النصوص المقدمة من الجهات الرقابية ، من أجل الحصول على الموافقة وكذا الشروع في تصوير أعمالهم السينمائية والتلفزيونية تلك ، والإطلالة بها على المشاهد الغارق اليوم بين مختلف الفضائيات العربية باحثاً عن عمل درامي أو سينمائي يسلط الضوء على همومه وهموم مجتمعه .

ويشار أيضاً على أنّ غياب الدعم المادي للمنتجين والمخرجين من أجل تقديم الأعمال السينمائية والتلفزيونية خاصة من قنوات العرض سواء السينمائية أو الفضائية ، جعل العديد يفضل في الوقت الحالي التوجه إلى المسرح .

ففي ظل غياب الدعم المادي ، والمحفزات المعنوية ، وفقدان الأمل في تحسين الأوضاع الحالية ، إضافة إلى إنشغال أجهزة الدولة عن تقديم الدعم أتجه الكثيرون إلى الأعمال المسرحية الأقل تكلفة إنتاجية .

وبالرغم أن معدلات الإنتاج المسرحي أنخفضت بدرجة كبيرة خلال فترة معينة في السنوات الأخيرة على خلاف ما كانت عليه بالماضي ، وذلك لعدة أسباب منها : إنتشار قنوات التلفزيون الفضائية وخاصةً الترفيهية ، وإتجاه النجوم البارزين إلى صناعة السينما والدراما التلفزيونية ، هذا بخلاف الجانب الإقتصادي المتمثل في تدني مستويات الدخل وبالمقابل إرتفاع أسعار تذاكر المسرح … هذا ما جعل وجود خلو في الساحة الفنية من الأعمال المسرحية لفترة زمنية … لذلك كان لدى المشاهد المصري بشكل خاص والعربي بشكل عام إشتياقاً لمشاهدة أعمال مسرحية جديدة … فأنطلق المسرح بقوة … وهو أشبه برجوع السهم للوراء قليلاً لينطلق بقوة وسرعة كبيرة .

يُعرف المسرح على أنه وسيلة للتعبير الفني عما يدور في حياة الإنسان من صراعات تحدث معه ، فهو المتعة البصرية والسمعية في نفس الوقت … وأهم شعار يرفع دائماً للمسرح هو : ” المسرح هو الحرية ، وبدونها لن يستطيع الحضور ” .

يعدّ المسرح أبا الفنون ؛ فهو مستخدم منذ القدم على يد كلٍ من القدماء المصريين والإغريق والرومان .

والجدير بالذكر … هو أنه يوجد خطأ شائع متداول بين الكثيرون … وهو أن من قدم المسرح للبشرية هم اليونانيون ( الإغريق ) ولكن الحقيقة هي أن أول الحضارات التي قدمت المسرح للإنسانية هي الحضارة المصرية القديمة ( الفراعنة ) ولكن كانت مقتصرة في صورة أشكال طقوس دينية داخل المعابد .

ومن أشهر ما قدمه المصريون القدماء في المعابد بأسلوب تمثيلي هي تجسيد الأسطورة المصرية القديمة … ” أسطورة إيزيس و أوزوريس ” … وهي أسطورة الخير والشر ، وأسطورة الحب الأبدي .

وهي الأسطورة التي تدور أحداثها حول ” إيزيس ” و ” أوزوريس ” والمؤامرة التي أرتكبها ” ست ” شقيق ” أوزوريس ” والتي أنتهت بقتل ” أوزوريس ” ، ثم سعى أبنه ” حورس ” للإنتقام لوالده ، وتعتبر هذة الأسطورة أكثر الأساطير العالمية وضوحاً وتحمل العديد من المفارقات الدرامية التي تجعلها قصة ثرية بالتفاصيل الكثيرة والشيقة ، وتوضح الأسطورة السمات المميزة لكل شخصية من الآلهة الأربعة محور القصة وكيف أن كثيراً من العبادات في الديانات المصرية القديمة يرجع أصلها إلى هذة الأسطورة … لذلك حرص المصريون على تقديمها كل عام في نفس التوقيت للتذكير بها وكنوع من الطقوس الدينية .

المسرح الفرعوني هو أقدم المسارح ، ولكن الفرق بيننا وبين اليونانيون ، هو أنهم أستطاعوا تقديم المسرح وإستمراره ، وذلك لأنهم أخرجوه من المعابد ، وتوجهوا به للجمهور ، بينما المسرح المصري القديم ظل متمسكاً بصفته الدينية ، وظل داخل المعبد رافضاً الخروج للناس ، فمات وأنتهى لفترة زمنية كبيرة … هكذا يكون المسرح ، حياً إذا أستطاع التواجد بين الناس ، معبراً عنهم وعن حياتهم ، وميتاً إذا أبتعد عنهم وعن حياتهم .

 

أن المسرح والحرية ثنائي إنساني ، فيوماً ما قال الفيلسوف اليوناني أرسطو : ” أراهن على بقاء المسرح للأبد لأنه يرتبط برغبة إنسانية أساسية ألا وهي التعبير عن المشاعر وتشخيصها وهذا ما يفعله المسرح ” .. إذن .. ما التعبير عن النفس إلا إنعكاس للحرية .. ألم أقل لك إنهما ثنائي إنساني ؟! …

المؤرخ الفني د. أحمد عبد الصبور
المؤرخ الفني د. أحمد عبد الصبور
قد يعجبك ايضآ
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.