كلمةُ حق ..يكتبها الأديب. عميد أ/ح “رءوف جنيدى”
كلمة حق :
_ تصاعدت فى الآونة الأخيرة حدة الهجوم على القوات المسلحة وجهاز الشرطة واتهامهما من قبل البعض بالتقصير والاهمال والتخاذل وضعف الآداء فى التعامل مع العناصر الإرهابية . وازدادت حدة الهجوم بعد الأحداث الأخيرة والتى كان من أبرزها حادث الواحات ثم حادث مسجد الروضة بشمال سيناء . حتى باتت القوات المسلحة فى مرمى سهام النقد والتجريح . وهو سأعتبره بدافع الألم والمرارة على شهدائنا الأبرار الذين نفقدهم يوما بعد يوم … ولما انتصب الميزان واكتملت هيئة المحكمة . كان لابد من الإدلاء بالشهادة التى أقسمت ألا اقول من خلالها الا الحق . ولعلمى أن كاتمها إنما هو آثم قلبه .. ولا أدعى أنى خبيراً عسكرياً ولا أمنياً ولا عالماً ببواطن الأمور . فلا خبير الا القائد الذى يقف بين جنوده فى ميدان القتال …. ودعكم من السهرات التليفزيونية الليلية لأصحاب رابطات العنق الأنيقة والياقات المنشأة . الطوافون بين الفضائيات حتى الساعات الأولى من كل صباح الا من رحم ربى منهم . وانما أخاطبكم بما تعلمته فى كلية القادة والاركان وأكاديمية ناصر العسكرية العليا . ومعايشتى لجغرافية وطبوغرافية سيناء من خلال عملى بها لعدة سنوات . عسى ان يكون هذا كافياً لإقناع البعض ..
أولاً : إن القتال فى المناطق الجبلية لهو أصعب أنواع القتال على الاطلاق للقوات النظامية ( وان كان لدينا القوات ذات التشكيل الخاص لهذه المهمة ) الا أن هذا النوع من القتال يضع المهاجم فى ظروف غاية فى الصعوبة . من حيث التسلق بالمعدات والأسلحة والذخائر وصعوبة الاتصالات وفقدها فى أحيان كثيرة وصعوبة التنسيق فيما بين القوات المهاجمة وتعذر وصول المؤن . وخصوصاً اذا حل الظلام . فضلاً عن مطاردة عناصر سكنت كهوف الجبال واستترت خلف ثنياته الصخرية . واقسم بالله العظيم . لمن لا يعلم لو تخيلتم جدلاً . أن قطاراً بعرباته صعد على احدى الميول الجانبية لجبل فى سيناء ثم ابتعدت عنه لكيلو متر واحد فلن تراه لضآله حجمه مقارنه بالجبل . فما بالكم بمن يبحث عن فرد مختبئ .
ثانياً : يعرف فى ميدان القتال بما يسمى بمدى الرؤية وقوس الرؤية . أما مدى الرؤية وهو : الى اى مدى يرى الفرد على خط مستقيم وهذا قد يتساوى فيه المهاجم والمدافع . أما قوس الرؤية وهو : كم يرى الفرد بالمواجهة . وهو ما يكون دائما فى صالح المدافع المختبئ فى الجبل . ولتقريب المفهوم . تخيل أنك تنظر من ثقب فى جدار.. على مكان مفتوح فإنك سترى بكل سهولة كل من يتحرك فى هذا المكان . ولكن لكى يراك أحدهم فعليه أن يسقط بصره مباشرة على النقطة التى تنظر أنت منها . وهو ما يعد مستحيلاً فى الصحراء والمناطق الجبلية . وحتى أن تمكن من رؤيتك واطلق عليك النار . فبحركة بسيطة لسنتيمترات يمينا أو يساراً يمكنك تفاديها . بينما لو تحرك هو لكيلو متر يمينا أو يسارا فهو فى مرمى نيرانك ..
ثالثاً : إن الحروب النظامية يا سادة تخضع لدراسات متعمقة وحسابات دقيقة . وتوضع لها الخطط الرئيسية والبديلة . ويتم فيها أعمال الاستطلاع وجمع المعلومات عن العدو من حيث العدد والعتاد والامكانيات القتالية والنيرانية لأسلحته . وإجراء المقارنات العددية والنوعية لكل قطعة سلاح يمتلكها العدو . فضلا عن دراسة الأرض والطقس والظروف الجوية والمناخية واستخدام التوقيتات الأنسب للمهاجم . مع فرض كل المواقف التى قد تطرأ اثناء القتال ووضع الحلول المناسبة لها . وعلى الرغم من ذلك كنا نعلم دارسينا من الضباط أنه قد يطرأ عليك أثناء القتال موقف غير كل ما ورد .. فعليك أن تتحلى بالمبادأة وحسن التصرف .. وخصوصاً فيما لو فقدت اتصالك بقيادتك .
رابعاً : وعطفاً على ما جاء فى البند السابق . فقد بلغت دقة التخطيط فى الحروب النظامية . ان لأصغر ضابط فى ميدان القتال كروكى موضح به نطاق عمله على الأرض هو وجنوده ومبين عليه الأهداف التى سيتعامل معها وبأى الوسائل . وهو ما ينفذ بكل دقة فى الخطط القتالية . ولنا فى حرب أكتوبر المثل . إذ أنها خضعت لكل هذه الدراسات فقدر لها النجاح . أما ما تواجهه القوات المسلحة فى سيناء فهو عدو خارج كل الحسابات والأنماط القتالية . فما أصعب أن تواجه شراذم لا تخضع لأى نظام أو قوانين . فهى متغيرة يوماً بعد يوم من حيث العدد والتسليح والتوقيت والإتجاه والمكان والخطة والزى . عدو هلامى ليس له معالم ولا حتى تجارب قتالية سابقة للتعرف على أساليبه وتكتيكاته .
خامساً : البعد الأنسان والنفسى لرجال القوات المسلحة . فهل تتخيلون معى أن قائداً ميدانياً يجتمع بضباطه وجنوده كل صباح . وفى كل مرة يرى وجوها غير التى كانت معه بالأمس استعواضاً عمن استشهدوا . او ان يرى الجنود قائداً غير الذى كان يقودهم بالأمس والذى لقى ربه شهيداً منذ يوم او يومين . وعلى الجميع أن يواجهوا يوماً دامياً جديداً لا يعرفون من أين سيأتيهم الموت هذه المرة .
سادساً : هل تعلمون أن أمريكا ذاتها . ودول عظمى أخرى بعد كل حرب تخوضها تحيل الكثير من ضباطها وجنودها أثناء وبعد القتال إلى مراكز التأهيل النفسى لإعادة تأهيلهم نفسياً بعد كل ماشاهدوه من ويلات القتال وأشلاء الضحايا وانهار الدم .. فهل سمعتم أو علمتم أن ضابطاً أو جندياً نقل من ميدان القتال إلى أى من هذه المراكز ؟ فهو إما فى الميدان يقاتل .. أو نقل ملفوفا فى علم الجمهورية شهيداً الى مثواه الأخير …
سابعاً : هل تعلمون أنه فى الحروب ما يعرف بنقطة الانهيار . وهى النقطة التى يبلغ فيها اليأس مداه لدى القائد الذى زادت خسائره بشكل يحول دون استكمال الحرب . وعندها غالبا ما ترفع الراية البيضاء اعلاناً للاستسلام ..
هل علمتم أو سمعتم أو قراتم أن حدث هذا لأى من وحداتنا العسكرية على مدار صراعاتنا المسلحة .
ثامناً : ليسأل كل منكم نفسه . هل تعلمون كم الوساطات التى يدفع بها أهل الصفوة وعلية القوم خلف ابن لهم حل موعد تجنيده . حتى لا ينضم لسلاح مقاتل و لكى يقضى فترة تجنيده بعيداً عن ميدان القتال والمناطق الملتهبة .. وهو ما منع رسمياً وبتعليمات مشددة …
هل رأيتم ذات مرة جثمان مجند شهيد تم تسليمه لذويه . فى الزمالك او المعادى أو جاردن ستى أو التجمع الخامس ؟ ثم نجلس الآن لنوجه اللوم لمن هم على خط النار !!!
تاسعاً : ليعلم الجميع أن الجندى الذى انهى خدمته بالقوات المسلحة بالأمس هو ابنكم . وان الجندى الذى يخدم بها حالياً هو ابنكم . وان الجندى الذى سينضم إليها غداً هو ابنكم . وان الضابط هو اب او أخ أو ابن لأسرة مصرية من بيننا . ياسادة : هذا قليل من كثير . وحتى لا أطيل عليكم ولا نوغل فى امور أكثر سرية .
عاشراً :اكتفيت بهذا القدر عله كافياً لإقناع البعض . وليعلم الجميع أن الجيش المصرى الذى انتصر فى اروع ملحمة عسكرية عرفها التاريخ الحديث وشهدت لها أعرق المعاهد العسكرية فى العالم وهى حرب اكتوبر ٧٣ . ليس بعاجز ولا مقصر ولا متخاذل حيال ما يجرى فى سيناء . ولكنها الأسباب التى ذكرتها . ياسادة : قد يتسلل فأر الى عرين الأسد . صحيح أنه سيقض مضجعه لوقت قد يطول …
ولكنه لا محالة هالك بين مخالبه . يا سادة : اقسم بالله العظيم : ليس هذا تطبيلاً أجوفاً ولا تأييداً أعمى ولكنها معايشتى للطبيعة هناك ودراستى فى هذا المجال . وبعد ما أوردت فى مقالى . فمن شاء منكم فليؤمن بكلامى ومن شاء فليكفر .
فمن آمن منكم فليردد معى دعوة ابراهيم عليه السلام ( رب اجعل هذا بلداً آمناً وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر ) …… صدق الله العظيم ..