كل مفقود .. يقابله موجود
كتبه الدكتور ربيع حسين
عزيزي القاريء ..
كثيرة هى المواقف التي نمر بها في حياتنا ، وكثيرة هى الأشياء التي نكسبها خلال سنوات عمرنا ، وكثيرة هى الأشياء التي نفقدها على مدار حياتنا . فالإنسان يولد ضعيفا ، لا يملك من حطام الدنيا شيئا ، ثم يبدأ في كسب العلم ثم المال ثم الأسرة والأبناء ثم المكانة الإجتماعية وهكذا ، وكذلك يبدأ في فقد تلك الأشياء تدريجيا ، كلما كسب شيئا فقد شيئا في مقابله (أو على الأقل فقد جزءا منه) . على سبيل المثال .. الرجل الأعزب يتمتع بوقته كاملا ، يفعل فيه ما يريد ، وكذلك يتمتع بماله كاملا ينفقه كما يشاء ويدخر منه ما يشاء ، ولكنه في المقابل يفتقد جو الأسرة والأبناء والخروجات والمناوشات والمشاكسات وما إلى ذلك من كوكتيل الحياة الأسرية . وعلى الجانب الآخر ، فالرجل المتزوج ، صاحب الأسرة والأولاد ، يستمتع بجو الأسرة وكوكتيل الحياة الأسرية ، ولكنه لا يملك من وقته إلا القليل ، ولا يدخر من ماله إلا القليل ، وقد يعاني ويلات المشكلات الزوجية والأسرية ، وأيضا ليس له من دولاب الملابس إلا جزء ضئيل . وعلى سبيل المثال .. المرأة التي لم تُرْزق أطفالا تملك وقتها كاملا ، تستطيع أن تمارس ما تشاء ، تجد وقتا للقراءة وحفظ القرآن وممارسة الهوايات وغيرها من شئون الحياة ، ولكنها في المقابل تفتقد متعة وجود الأطفال واللعب معهم وتربيتهم وشراء حاجياتهم وما إلى ذلك . وعلى الناحية الأخرى ، فالمرأة التي رزقها الله أطفالا ، تستمتع بوجودهم في حياتها ، ولكنها مشغولة بهم معظم الوقت ، ترعى وتربي ، تنظف وتحمم ، ولا تجد لنفسها وقتا خاصا ، حيث أصبح معظم وقتها يصب في مصلحة الأسرة والأولاد . وهكذا ، فالإنسان في مسار عمره ، كلما أراد أن يكسب أمرا لابد أن يتجاوز عن أمر آخر أو عن جزء منه ، وفي ذلك أقول “كل مفقود يقابله موجود ، وكل موجود يقابله مفقود” وقد شرحت ذلك مفصلا في كتابي “أول أكسيد الفاعلية” . وقد عاينت من خلال عملي ، وفي مسار حياتي ، العديد من الذين يركزون فقط على ما يفقدون ، ويعيشون في دائرة الحزن والألم وجلد الذات ، وقد يتعدى الأمر إلى الحقد على غيرهم ، وبالتالي يميلون إلى العدوان على الآخرين لأخذ ما لديهم ، أو يعيشون في دائرة الحسد ، حسد الآخرين على ما آتاهم الله من فضله . هؤلاء لن يشعروا بالسلام الداخلي ، وسوف يكونون في حالة من الصراع الدائم ، الصراع الداخلي المتمثل في الأفكار التي تدور في رؤوسهم ، والصراع الخارجي المتمثل في التنافس غير الشريف مع الآخرين والعمل على عرقلتهم . وعلى جانب آخر فقد عاينت بعض الناس الذين يعلمون جيدا أن الحياة قائمة على الكسب والفقد ، فيعملون على العيش بتوازن بين ما يكسبون وما يفقدون ، هؤلاء متصالحون مع أنفسهم ومع المجتمع من حولهم ، يركزون على تطوير قدراتهم وأحوالهم ، وليس على النظر إلى أحوال الآخرين والعمل على عرقلتهم . وأنت لا تدري على وجه اليقين إن كان ما تملكه خيرا أم شرا ، ولا تدري على وجه اليقين إن كان ما فقدته خيرا أم شرا فقد قال الله تعالى (… وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ۖ وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (35) سورة الأنبياء . كما قال الله تعالى (… وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216) سورة البقرة . وفي الختام ، عزيزي القاريء ، أنا هنا لا أدعو إلى الركون إلى الراحة وعدم البحث عن المفقود والسعي نحو صناعة الفرص واقتناصها ، وإنما أدعو ألا يهدر هذا السعي مواردك وألا ينهك قواك وألا يلهيك عن التركيز على الموجود وتقدير قيمة ما في يدك و السعادة به … وبس كدا ..
حياكم الله .
بقلم الدكتور ربيع حسين
مستشار سيكولوجي إكلينيكي
مستشار التدريب والمحاضر الدولي
مستشار العلاقات الأسرية والتربوية
مستشار الكوتشينج والتنمية البشرية