لا تكن نجيب محفوظ في زمن الكورونا

 لا تكن نجيب محفوظ في زمن الكورونا

بقلم / حمادة سعد
تعد خفة الظل وروح الدعابة والكوميديا إحدى سمات المصريين التي اكتسبوها من أسلافهم عبر تاريخهم العريق ، بل وتكاد أن تكون عنصرًا أصيلًا متأصِّلًا في جيناتهم الوراثية .
فكانت حياتهم عبارة عن أحاجي ، وأهازيج هزلية ، ونكات وطرف يعبرون بها عن واقعهم الأليم ؛ بغرض التخفيف عن أنفسهم ، وعن الآخرين .
فكنت تجدهم يسخرون من ظروفهم الصعبة ، وأوضاعهم المعيشية بالأمثال الشعبية ، والأقوال المأثورة التي ما زالت تتردد حتى يومنا هذا مع كل موقف مشابه .
وكان الأديب الكبير والروائي المصري العبقري صاحب نوبل الأستاذ “نجيب محفوظ “
يتمتع بنصيب كبير من تلك الروح المصرية المرحة فكان محبًّا للنكتة و الإفيه الساخر .
ويروي عنه ” الحرافيش ” من أصدقائه وتلامذته الذين كانوا يرافقونه أينما ذهب ، وينهلون من ثقافته وفلسفته الحياتية الفريدة طُرَفًا لِمَواقِف جمعتهم بكاتبنا العظيم ، وضع عليها طابعه الساخر الكوميدي فرسخت في وجدانهم ، وقاموا بسردها للأجيال المتعاقبة جيلا بعد جيل .
وهذا ما ورد في كتاب تلميذه ” زكي سالم ” المسمى بـ «صداقة ممتدة» ، وهو أحد أعضاء شلة «الحرافيش» من أصدقاء الأديب نجيب محفوظ ، والذي ذكر فيه لحظة طريفة حكاها لهم الروائي العظيم بنفسه عندما تقدم للدراسة في كلية الآداب عام 1930 ، و وقع اختياره على قسم الفلسفة ، و كان عميد الكلية وقتها هو عميد الأدب العربي العملاق الدكتور “طه حسين ” الذي كان يستقبل الطلاب الجدد بنفسه؛ ليتأكد من خلال الحوار والمناقشة معهم أنهم أهل للدراسة في أقسام الكلية المناسبة لهم. وحين سأل العميد ” طه حسين ” الطالب ” نجيب محفوظ ” عن سبب اختياره لدراسة الفلسفة بالتحديد عبر محفوظ عن رأيه ، وأطال الحديث ، وتشعب واستفاض في القول حتى أوقفه الدكتور طه حسين مداعبًا وهو يقول له: «إنك حقا تصلح لدخول قسم الفلسفة، فكلامك غير مفهوم».
ومن نوادره الشهيرة أيضا أنه بعد عرض روايته ” ثرثرة فوق النيل ” تم توبيخه من بعض المسؤولين ؛ لانتقاد الرواية الأوضاع المعيشية والاجتماعية في مصر بشكل فج ، فرد عليه الأديب الراحل” نجيب محفوظ ” قائلا :” ما تخدش في بالك دا كلام حشاشين ” .
ولعل حياة ” نجيب محفوظ ” البسيطة ذات الطابع الشعبي البسيط ، و التصاقه بعامة الشعب المصري من البسطاء ، وأصحاب الحرف اليدوية بشوارع مصر العتيقة ذات التاريخ العريق هي التي أضفت على لغته وشخصيته تلك الروح اللطيفة وخفة الظل ، فكلام تلك الطبقة يعود في مجمله إلى قاموس الأمثال الشعبية التي توارثوها عبر الأجيال ، وبرغم اختزال كلماته إلا أنه يحمل معاني كثيرة ويرمي إلى إسقاطات سياسية ، واجتماعية ، واقتصادية لا يقوى عليها مشاهير المثقفين .
ومعظم أعمال الكاتب والروائي المصري وابن النكتة ” نجيب محفوظ ” دارت خلال فترة الثلاثينيات من القرن الماضي وحتى عام 2004 ، وجاءت كلها من بين جنبات الحارة المصرية الأصيلة فتشم معها رائحة بضائع العطارين ، وتسمع بين سطورها طرقات و أصوات النحاسين حتى تكاد أصوات مطارقهم تعزف سيمفونية خالدة مع أصوات نعال المارة ، وحوافر الخيول التي تجري بعربات السوارس و الكارو هنا وهناك .
وكتب القدر لمؤلفات ” نجيب محفوظ ” مجموعة خالدة من التراث القصصي لها طابع البقاء والخلود مثل : ” الثلاثية و ثرثرة فوق النيل ، خان الخليلي ، بداية ونهاية ، قشتمر و السمان والخريف ” وغيرها من الأعمال التي عبرت عن الشارع المصري بآماله وأحلامه .
ومن المواقف الطريفة أيضا في حياة كاتبنا العظيم أنه أخفى خبر زواجه من السيدة ” عطية الله إبراهيم ” عن جميع أصدقائه ومعارفه عشر سنوات كاملة ؛ وذلك ليتفرغ للكتابة بعيدًا عن المجاملات والزيارات العائلية ، ولم يكتشف أمره إلا بعدما تشاجرت ابنته ” أم كلثوم” مع زميلتها في المدرسة حيث قام والد تلك الفتاة بإخبار صديقهما المشترك الشاعر والفنان ” صلاح جاهين ” والذي قام هو الآخر بكشف الأمر بخفة روحه وحبه للدعابة .
كانت حياة نجيب محفوظ مليئة بتلك النوادر والطرف المضحكة فنجده مثلا عندما دعي لمشاهدة التمثال الذي صمم من أجله بميدان ” سفنكس ” بمنطقة المهندسين أخذ يضحك بطريقة هيستيرية عندما رأى شكل التمثال بائسا وبعيدا كل البعد عن ملامحه قائلا وبلهجته العامية الجميلة : ” يظهر إن الفنان اللي صمم التمثال ده ما قراش لي غير رواية ” الشحاذ ” يالها من روح مرحة وقلب طيب! .
وتأتي شهادات تلاميذ ” نجيب محفوظ ” مثل : الأديب المصري الرحل ” جمال الغيطاني” لتعبرعن شخصية نجيب المرحة حيث قال : “مجرد استعادة هيئة الأستاذ لحظة إلقائه النكتة ، أو توليدها ، أو نطقه القفشة يجعلني أبتسم”، ويروي الغيطاني أنه في إحدى جلساتهم الطريفة عبر لهم الأستاذ عن إحساسه لحظة الزلزال الذي أصاب مصر عام 1992قائلًا : “كنت أجلس في الصالة، شعرت به بقوة، وتطلعت إلى السقف منتظرا سقوطه، وسقوط برلنتي عبد الحميد في حجري”، والجدير بالذكر أن الفنانة “برلنتي عبد الحميد ” هي أشهر نجمات السينما في الستينيات، وكانت تسكن الطابق العلوي من نفس العمارة التي يسكنها نجيب محفوظ.
تمر الأيام ويرحل العَلَم البارز والأديب الكبير ابن حي الجمالية بالقاهرة عن عالمنا يوم 30 من شهر أغسطس من عام 2006عن عمر يناهز الخامسة والتسعين بعد رحلة من العطاء والإبداع يرحل ابن النكتة ، لكن تظل النكتة والطرفة تعيش بيننا على الرغم من كل الظروف الصعبة ، وهذا ما نلاحظه اليوم في ظل تفشي وباء وفيروس ” كورونا ” وشقيقه من الفيروسات الأخرى التي نعجز الآن عن حسرها ، واستهتار البسطاء بالكوارث التي تحيق بهم ، فتجدهم يسيرون في الشوارع والطرقات غير عابئين بأي مسؤولية مطلقين أمثالنا الشعبية التي لا تتناسب مع حجم الكارثة قائلين ” المكتوب على العين لازم تشوفه العين “
هذا المثل في حد ذاته كفيل بأن يحول الأمر إلى كارثة إنسانية لا يطيقها أحد .
ومع تفشي الوباء بصورة كبيرة حول العالم ، ومع ارتفاع أعداد المصابين في مصر يوميا بشكل مقلق غيب معه الكثير من الأصدقاء والأحباب ، فعلينا أن نتوقف قليلا عن نبرة المزاح واللامبالاة ؛ لأن المنطقة من حولنا يستشري فيها المرض كالنار في الهشيم حتى وصلت الحالات المصابة اليوم فقط في دولة مثل فلسطين المحتلة إلى قرابة الخمسين ألف حالة وهي ليست ببعيد .
فيا عاشق النكتة ستكون بين أمرين كلاهما مر في القريب العاجل ، ولا أريد ذكرهما حتى لا يقال أنني لا أشعر بالآخرين ، وأتسبب مع غيري في كوارث معيشية وضيق في الأرزاق وستتأثر بسببه معظم بيوت البسطاء .
الآن يتبقى الأمر الأهم وهو الاعتماد على وعي الناس ، و أن تسير الحياة بشكل طبيعي ، وهذا الخيار في حد ذاته كفيل بأن يجعل الوباء أشد قسوة وضراوة وستتعدى من خلاله مصر حاجز الألف إصابة كعهدها السابق ، وكحال بعض دول الخليج الشقيقة الآن التي تجاوزت الخمسة آلاف حالة يوميًا .
فالطرفة والنكتة شيء جميل ، لكن لا مجال لهما في وقت الأزمات ؛ لذا أقولها وبصوت يملؤه الأسى :
يا عزيزي ” لا تكن نجيب محفوظ في زمن الكورونا !!” .

قد يعجبك ايضآ

التعليقات مغلقة.