لا تنخدع بالمظهر فالمظهر خدَّاع !!
لا تنخدع بالمظهر فالمظهر خدَّاع !!
بقلم / حمادة سعد
كثيرًا ما ينخدع الناس بالمظاهر ، بل وقد يحكمون على غيرهم أحكامًا مسبقة
دون أي برهان أو سابق تجربة ، وهذا يذكرني بقصة كنت أرويها لطلابي من براعم المستقبل وناشئة الأمل ، وكنت أحذرهم فيها من هذا السلوك المشين الذي يهوي بصاحبه إلى الهاوية ، و يسلخ من الفرد إنسانيته فيصبح قلبه أصلد من الصخر القاسي الذي لا يلين ، وتحكي هذه القصة …. أنه في قديم الزمان كان هناك عصفور صغير يعيش مع أسرته الصغيرة مطمئنا فوق إحدى الأشجار الضخمة وسط غابة غناء مليئة بالأشجار الرائعة والحيوانات والطيور متنوعة الأشكال والأحجام والألوان ، وفي ذات يوم عاصف خرجت الأم من العش بحثًا عن الطعام لأبنائها الصغار ، ولكن تَأتي الرياح بما لا تشتهي السفن فتهب رياح عاتية على العش لِتُوقِعَ أحد الأبناء الذين لم يتعلموا الطيران بعد نظرَا لصغره ، وعدم اكتمال الريش الذي يمكنه من تلك المهارة الهامة لكل طائر .
وظل ذلك العصفور في مكانه والرعب يذبح صدره وهو يرى بعينيه الصغيرتين صراع حيوانات الغابة من حوله ، وهروبها من بعضها البعض بسرعة وقوة بينما هو لا حول له ولا قوة ، وأثناء هذا القلق والتوتر مر به فيل طيب القلب يتمشى بين الأزهار والأغصان وهو ينثر ماء البحيرة بخرطومه الجميل فوق أوراق الشجر الخضراء لتزداد بريقًا ولمعانًا ، لكن العصفور الصغير صدم أشد الصدمة خوفًا من حجمه الذي كان يراه للمرة الأولى في حياته ، بل كان يهتز مع كل خطوة يخطوها ذاك الفيل ، وكأن زلزالًا يهز الغابة كلها ، فتبسم له الفيل عندما رآه على تلك الحالة من الخوف والقلق ، ورفق به قائلًا : ما بك يا صديقي ؟ لماذا ترتجف هكذا أيها العصفور الجميل الصغير ؟ هل سقطت من فوق الشجرة ؟ هل تشعر بالبرد يا صغيري ؟
ثم قرر الفيل أن يذهب ليحضر بعض أوراق الشجر كي يحفظ ذلك العصفور المسكين من برد الغابة القارس وزخات المطر التي أوشكت على الهطول …
لكن الثعلب المكار دائمًا في الموعد لا يترك فرصة سانحة للافتراس إلا انتهزها على الوجه الأكمل .. فاقترب الثعلب من العصفور الصغير وتظاهر بالشفقة والعطف وسكب الدمع من عينيه أمام العصفور الصغير قائلًا : ما الذي جرى لك أيها المسكين ؟ فاطمأن له العصفور قائلًا : لقد سقطت من عشي .
فرد الثعلب : نعم أعلم ذلك وأعلم مكان عشك .. وأمك قد أرسلتني للبحث عنك بعد العاصفة الشديدة التي كانت منذ قليل في غابتنا الجميلة ، ولكن عليك أولًا أن تتخلص من الفيل الشرير الضخم الذي يسعى لقتلك وافتراسك حيًّا ..
وفي تلك اللحظة عاد الفيل حاملًا بعض الأوراق، فابتعد الثعلب واختبأ خلف الأشجار يراقب العصفور بخبث ودهاء … وضع الفيل الأوراق حول العصفورالذي شعر بالدفء، ثمّ قال للفيل: ” أيها الفيل الطيب …. أشعر بالجوع…. أيمكنك أن تحضر لي بعض الطعام ؟ ” كانت هذه فكرة العصفور لإبعاد الفيل عنه ؛ حتى يتمكن الثعلب من إعادته إلى عشه وأخوته ، فالفيل كبيرٌ ومخيفٌ جدًا، أمّا الثعلب فإنّه يبدو طيبًا، ويمتلك فراءً جميلًا ذي ألوان رائعة. ردّ الفيل مبتسمًا : “بالتأكيد أيها العصفور، سأحضر لك بعض الحبوب، ولكن كن حذرًا من الحيوانات الأخرى ولا تتحرك من مكانك حتى أعود”. اقترب الثعلب من العصفور فور ذهاب الفيل قائلًا : ” فلنذهب كي أعيدك إلى عشك أيها العصفور الرقيق ” وحمله فوق ظهره الناعم وابتعد خلف شجرة ضخمة، وفجأة تغيرت ملامح الثعلب، ورمى العصفور على الأرض ، ثمّ هجم عليه بمخالبه الحادة ليفترسه ، وهنا بدأ العصفور بالصراخ عاليًا: “أنقذوني ! أرجوكم أنقذوني !” سمع الفيل صوت العصفور فعاد مسرعًا يزلزل ممر الغابة العشبي الضيق بأقدامه الضخمة ، فلمح الثعلب وهو يحاول افتراس العصفور، فركض بسرعة وضرب الثعلب بخرطومه القوي فجعله يطير كطائرة ورقية في يوم عاصف ، ثم حمل الفيل العصفور وقال له: “ألم أخبرك ألّا تبتعد أيها العصفور؟ “. اعترف العصفور قائلًا:
“في الحقيقة لقد كنت أشعر بالخوف منك أيها الفيل، فأنت ضخمٌ وكبير الحجم، وأنا عصفورٌ صغيرٌ جدًا “، ردَّ الفيل بحزنٍ شديد: “أيها العصفور، أنا لا آكل الحيوانات الصغيرة، ولست أريد سوى مساعدتك، عليك أن تتعلَّم أنَّه لا يجب الحكم على أحد لشكله أو حجمه ، بل بأفعاله فقط ” ، ثمّ أخذ الفيلُ العصفور وأعاده إلى الشجرة التي سقط منها، وكانت أمُّه تبحث عنه بخوفٍ شديد، ففرحت جدًا عندما رأته بصحبة الفيل الطيب، و قدمت الشكر للفيل اللطيف على مساعدتها ونجدة صغيرها .
هذه القصة وضحت لنا كيف أن المظهر خادع ، وأن الحكم على المظهر دون الجوهر قد يرد الناس المهالك .
ومع ما نراه حولنا الآن خاصة بعد توغل وسائل التواصل الاجتماعي بتطبيقاتها المتعددة أصبح الزيف والتضليل من الأمور الميسورة والتي تجد طريقها لنا بسهولة ويسر دون مشقة وعناء ، فتنهال عليك عبارات المدح والثناء من كل حدب وصوب لأتفه الأسباب ، أو تسب وتلعن حتى الجد العاشر وأيضًا لأتفه الأسباب .
هل صارت الصورة هي المقياس والمعبر الأول والأخير عن شخصية الإنسان وهويته ؟ هل طفح علينا عصر السرعة فصرنا لا نكلف أنفسنا مشقة التأكد من نوايا الناس الحقيقية نحونا فلم نعد نشغل بالنا حتى بمجرد التبرير عندما تنطبع لنا صور خاطئة في أذهان الآخرين ، ولم نعد نعبأ أيضًا بعشرة السنين الطوال التي قضيناها معًا ركضًا ومرحًا في شوارعنا وحوارينا .
واقع الأمر يخبرنا بأمور خطيرة فرضتها علينا سنوات التكنولوجيا الخداعة
والتي أظهرت لنا أسوأ ما فينا بعد ما كان خفيا مستترًا بين حنايا الصدور.
فحلت الضغينة عوضًا عن المحبة والألفة ، وصارت صفحات التواصل الاجتماعي ساحة مليئة بالمكايدات و التنفيس عن مكنونات الصدور المريضة بطرق غير مباشرة ، أو حتى بكافة الطرق الصريحة والمباشرة … فتفرق الأصدقاء ، وتقطعت الأرحام وأصبح الكل في صراع مع النفس والآخرين عبر عالمه الافتراضي الوهمي الذي كونه لنفسه وارتضى به .
فعلينا أن نعطي الفرصة للآخرين ، ولا نحكم عليهم أحكامًا مسبقة بناءً على مظاهرهم كما قال الشاعر والأديب الإنجليزي ” جون درايدن ” :
” لا تنخدع باللباس أو المظهر، فمن أراد البحث عن لؤلؤ فليغص إلى الأعماق “
هذا هو المعنى الذي يجب أن يكون اتجاهًا وطريقة في التعامل مع الآخرين فكم من زهرة يانعة ملساء تدمي يديك إذا لم تكتمل لك صورتها الكاملة لترى شوكها الضارب برأسه متحديا إياك أن تحاول الاقتراب منها لتستنشق عبيرها أو تقطف عودها ….
وكم ومن شخص رث الهيئة .. أشعث الشعر .. رقيق الحال ، لكنه يحمل في جمجمته علم الأولين والأخرين .. وكم من رجل أبيض الثياب .. أسود اللحية .. طيب الرائحة لكنه ثعبان في ثوب إنسان ولا يتورع عن قول الزور ، أو العمل به .
ختاما لا تكن متسرعًا في الحكم على الآخرين فكما يقول المثل الإيطالي
” تزيين الجسم أسرع من تزيين النفس ” .