لن تنتهي حياة حافلة الأبداع ” الفنان محمد الوهيبي”
لن تنتهي حياة حافلة الأبداع – الفنان محمد الوهيبي
لن تنتهي حياة حافلة بالإبداع والنشاط الفني حتى لحظاتها الأخيرة، ولتستمر في خلود أعماله، هو ابن الأبدية وابن فلسطين التي ولد فيها قبل عام من نكبة 1948 حيث انتقلت عائلته اللاجئة إلى سوريا، وسكنت في مخيم خان الشيح قرب دمشق. محمد رحل منفياً بعد نكبته الثانية قبل عام حين خرج من سوريا، كملايين السوريين والفلسطينيين السوريين الفارين من جحيم الحرب.
ينتمي الوهيبي إلى عشيرة الوهيب البدوية التي عاشت في شمال فلسطين قريبًا من بحيرة طبريا، وهذا ليس تفصيلًا سيريًا أو هوياتيًا بل إن هذه الهوية البدوية الفلسطينية طبعت عمله إلى حد بعيد، فعمل الوهيبي مزيج من فن الحفر والفنون الشعبية التطبيقية ذات الألوان المستمدة من الأرض كالبنيات، فتحضر الزخرفة بقدر ما يحضر لون التراب، ولون بيت الشعر الأسود والجغرافية المفتوحة، مثلما الوشم الداكن وحلي المرأة البدوية وألوانه الذهبية والفضية، والحفريات الأثرية أو الأطلال حيث يعيش الناس بالقرب من التاريخ، كما الخيال والأسطورة أيضًا، مع الأخذ بالاعتبار أن العديد من الحضارات العظيمة في منطقتنا قامت في الصحراء أو بالقرب منها.
تخرج محمد الوهيبي من قسم الحفر والغرافيك في كلية الفنون الجميلة بجامعة دمشق، وعمل في التدريس سنينًا طويلة في غير بقعة من الأراضي السورية، وكدأبه في عمله الدقيق الصبور، كان ظهور الوهيبي في الساحة الفنية السورية متأخرًا. مارس النحت، واتسم عمله في هذا المجال بتوظيف النحت الجداري “الرولييف” واعتماد العناصر الأولية كالمرأة والنبات والحيوان، أما عمله في الحفر والذي يحتل المساحة الأكبر من منجزه، فيتميز بخصوصية تقنية، إذ أنه لم يكن حفرًا تقليديًا يستخدم القوالب الحجرية أو الخشبية أو المعدنية والأحبار والمكابس، بل هو أقرب إلى فن الحك لمساحات من الألوان الداكنة، باستعمال المخارز والأدوات الحادة، لذلك فإن لوحته تتجلى ولا تظهر جاهزة كنسخة مطبوعة.
استفاد الوهيبي من تقنيات الحفر الملون، فلم تقم لوحته على التعارض الحاد بين الأسود والأبيض، بل على تدرجات للألوان البنية، مع مداخلات لألوان الأرض البركانية والصخور البازلتية كالرمادي والأسود، ولم تكن مساحاته كتيمة وموحدة، بل تتداخل فيها الخطوط والأشكال التجريدية، وانتقل الوهيبي في مراحله المتأخرة إلى إضافة ألوان أكثر حرارة بدت قريبة من أجوائه نفسها، كالأحمر، مع لمسات من الكولاج الذهبي أو الفضي، أما في مرحلته الأخيرة فتبدى لديه اتجاهين الأول الرسم والحفر بالأسود والأبيض، والثاني انتقاء ألوان صريحة أو زاهية بعض الشيء ضمن موضوعات عالمه نفسها، متخذة هيئة أشكال شبه هندسية أو أجسام بشرية مبسطة تسترها ثياب فضفاضة أقرب إلى المسوح.
يخلق محمد الوهيبي الرموز، لا لنبحث عن فكها، بل إنه يتكلم تشكيليًا فهذه لغته
تبدو علاقة الوهيبي بالتاريخ والثقافة البشرية طبيعية تمامًا، من أول رسم لحيوان متوحش بالترابات على جدران الكهوف، إلى أوابد الحضارات القديمة، وتستعير أعماله المسطحة صورة النحت، أو طابع المخطوطات القديمة، لتصل إلى تقشف ألبرخت دورر وتنتهي عند التعبيرية الألمانية وحسها الساخر المأساوي.
يخلق الوهيبي الرموز، لا لنبحث عن فكها، بل إنه يتكلم تشكيليًا، فهذه لغته، وهي اللغة التي نفهمها ونشعر أنها قريبة منا فهي شيفرات حضارية وإنسانية، وهو إذ ينسحب مادياً من المشهد، فإن قوة الروح في عمله، مستمرة في الوجود “هزمتك يا موت الفنون جميعها” كما قال محمود دوريش.
الرجل الدمث ذو الابتسامة الطيبة، قليل الكلام، قال الكثير ورحل، كان عالمًا قائمًا بذاته، وكان واحدًا منا، أليفًا عميقًا وبسيط. وإذ يدمر الجهل والتعصب التراث الحضاري اليوم، نستمر من خلال حراس ذاكرتنا المتعددة البعيدة والغنية، والوهيبي والفنانون الأصيلون عمومًا هم هؤلاء.
تحرير /ميريام حنون