ما تركه لنا جدى بقلم الكاتبة :اشرقت ياسين

كان لي صديقة تردد منذ فترة وبشكل دائم آية من القرآن تقول: “وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافاً خافوا عليهم”، فكرت كثيراً ما الذي يمكن أن يتركه الإنسان في هذه الحالة، أعتقد أنه لا شيء يضمن ذلك، لكن ربما عرف جدي الإجابة منذ سنوات، ربما لم يتركهم ضعافاً بشكل حرفي، فقد ترك 9 أبناء، بينهم 4 ذكور و5 من الإناث، كبروا وتزوج جميعهم حتى أصغرهم، ولكنه مع ذلك ترك لهم ما لا يخشى به عليهم من بعده، ترك عملاً طيباً.

تبدأ القصة من رجل يبدو عادياً، سُمي “ياسين”، يعيش بمدينة السويس الثائرة دوماً، يعد أشهر تاجر لبيع وتجارة اللحوم في مدينته، يحيا سعيداً مستقراً بين أسرته وأهله، إلى أن جاءت هزيمة 1967، وكان أول ما واجهته مدن القناة، لم تترك في المدينة شيئاً يصلحُ للحياة، رحل عن مدينته مكرهاً، رغماً عن قلبه المعلق بها، هناك حيث وُلد ونشأ؛ حيث كانت حياته في كل شوارعها، حيث كان الهجر صعباً، رحل بزوجته وأولاده وترك كل شيء آخر، ذكرياته وأحلامه وكل تفاصيلها، وكان آخر ما رآه فيها الدماء والموت، المباني المحطمة والآمال كذلك، انتقل إلى القاهرة العاصمة الجافة، التي تخلو من الأهل والرفاق، بدأ من اللاشيء، رُزِق بمحل صغير حاول منه استعادة مكانته في بيع اللحوم وتجارتها، عاش التشتت وعدم الاستقرار فترة حتى ذاع صيته بين الناس بأمانته وحسن خلقه، لم يكن الأمر سهلاً، لكن مع ذلك صبر وأسرته، إلى أن تيسر الحال مرة أخرى، انتقل هو وأولاده من غرفة صغيرة سكنوها عامين أو أكثر إلى شقة أكبر، بقي في القاهرة حوالي عشرين عاماً عاد بعدها إلى مدينته مشتاقاً، عاش فيها سنوات عمره الأخيرة حتى فارق الحياة هناك في المكان الذي يحب، منذ عشرين عاماً أخرى.

كل هذا يبدو عادياً، لطيفاً، لكنه لم يكن الشيء المبهر بالنسبة لي، يحكي أبي لي يوماً بعض المواقف عن جدي، يقول إنه عاد لبيته ذات يوم بغير الجلباب الذي نزل به، وعندما سألته جدتي أجابها “واحد طلبه اديتهوله”، بهذه البساطة!

وحكاية أخرى، كان كثيراً ما يذبح ويذهب لجدتي باللحوم ويطلب منها إعداد طعاماً يكفي لأشخاص كثيرة، فتلبّي هي، يفتح باب البيت ليدخل كل مَن يمر بالشارع ليتناول الطعام في بيته، وأقام لإخوته بيوتاً يسكنونها بعد ما دمرته الحرب، لم يترك يوماً شخصاً طلب منه المساعدة إلا وكان له.. لم يتخلّ.

كان كذلك مع من عرفهم من رفاق وجيران ومن لم يعرفهم، وكان أعظم مع أولاده، كان رجلاً كريماً، ليس في ماله فقط، بل في مشاعره أكرم، كلما اجتمع أبي وإخوته أجدهم يتحدثون عنه، يرددون دائماً “ما حرمنا أبي شيئاً قط”، يذكرون أياماً كان معهم فيها؛ حيث يجتمع كلهم حول التلفاز وشرائط الفيديو، يتذكرون ويضحكون، فيدعون له برحمة الله.

ما أدهشني في سيرته يا صديقي حقاً هو الأثر، أن أحيا في مدينة تركها هو منذ أعوام كثيرة وقد جاء إليها غريباً في الأساس؛ لأجد من يكرمني اليوم لأنني “حفيدة ياسين”، أن يذكر اسمه فأسمع ما يجعلني أشتاق له، وأغبط من عاشوا معه أكثر من 3 سنوات رأيته فيها، لم يكن يهتم جدي أن يترك لأولاده مالاً كثيراً، بقدر ما اهتم أن يصنعهم، أن يعلمهم أن الإنسان ليس مالاً فقط وإنما سيرة، قام وجدتي بتربية 9 أبناء لم ينشأ أحدهم فاسداً، بل أكملوا سيرته الطيبة فكانوا نعم الخلف، ظلوا معه يرجون بِرّه حتى رحل، ولم ينقطعوا عن الدعاء له يوماً، أظن أنها مكافأة الله له، رزقٌ من الله جزاء ما عمل وصبر، أظن كذلك أنه لو رآهم اليوم لفرح كثيراً بما صنعه.
نقلا عن هاف بوست

قد يعجبك ايضآ
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.