محمود ياسين صوت مصر الحالم في ذاكرة الزمن
محمود ياسين صوت مصر الحالم في ذاكرة الزمن
وُلد محمود ياسين في 2 يونيو 1941 بمدينة بورسعيد، وهي المدينة الباسلة التي شربت من البحر ملوحة العناد وورثت عن الميناء روح الانفتاح وورثت جيناتها لابنائها
كتبت / ماريان مكاريوس
. هناك، ربما تشكلت بدايات الحلم. شابٌ يقرأ الشعر بصوت مبحوح، يتأمل الموج ويسأل نفسه: كيف يكون للمرء دور في زمن يضج بالأسئلة؟ كانت القاهرة هي الإجابة. فيها درس الحقوق، لكنه اختار المسرح. وهناك، على خشبة المسرح القومي، بدأت الرحلة الحقيقية…
لم يكن محمود ياسين مجرد فتى وسيم يشق طريقه بين عدسات الكاميرا، بل كان مشروعاً فكرياً وفنياً منذ البداية. وحين اقتحم شاشة السينما، كان يحمل صوته قبل ملامحه، كأنه يعلن أن الكلمة عنده تسبق الحركة، وأن الدور لا يُؤدى فقط، بل يُفهم ويُعبّر عنه.
كان صوت محمود يس علامة مميزة يكفي ان يبدأ في الكلام فتجد نفسك تنجذب وراء صوته الرخيم المميز
في أفلامه الأولى، كان يمثل جيل الستينيات الباحث عن هوية، عن أفق، عن وطن داخلي وخارجي. في فيلم “الرصاصة لا تزال في جيبي”، لم يكن مجرد بطل يعود من الحرب، بل كان تجسيدًا لذاكرة أمة تنهض من هزيمتها لتعيد بناء كرامتها. في “الوفاء العظيم”، امتزج الحب بالوطن، والحنين بالواجب. وفي “أنف وثلاث عيون”، قدّم نموذج الرجل الذي يخوض معركة مع الذات، لا تقل ضراوة عن أي حرب خارجية.
كان استاذ في انتقاء ادوراه و حتي و لو تشابهت كان يضفر لها شخصية و روح جديدة
تفوّق محمود ياسين في دور العاشق المثقف في فيلم اذكريني، الطبيب المتأمل في انف و ٣ عيون، الضابط الشريف، والقاضي الذي يتردد بين القانون والرحمة. وكان لصوته – بنبرته المميزة، وخشونته المدروسة – قدرةٌ على إقناعك أن ما يقوله ليس حوارًا مكتوبًا، بل رأيًا شخصيًا نابعًا من عمق التجربة.
صوته هذا، كان علامة مميزة، لا تقل أهمية عن ملامحه أو أداءه. في الدوبلاج، في الإعلانات، في التوثيق، كان صوته هو المؤرخ الصوتي لجيل كامل. وكم من مرة وجدنا أنفسنا نثق في الخبر أو الوثائقي فقط لأن محمود ياسين هو من يرويه. كان صوته مثل “ساعة القاهرة” في ثابتها، واضح، لا يخطئ.
ولم يكن محمود ياسين فنانًا بعيدًا عن الناس. بل كان قريبًا، شديد الالتصاق بقضاياهم. قدّم أفلامًا ناقشت الفقر، والزواج المختلط، والتعصب، والطبقية، دون أن يتورط في خطاب شعاراتي أو مباشر فكان دوره في رواية احسان عبد القدوس “ايام في الحلال” و دوره في فيلم “الشريدة” العامل البسيط الذي يتزوج من فتاة طموحة يحاول ان يرتقي بها و معها لكنها تستنكر له و تتوالي الاحداث.
في مسرحياته – من “وطني عكا” إلى “الخديوي” – كان دائمًا يختار ما يتماس مع الوجدان العام. لم يسعَ إلى البطولة المطلقة بقدر ما سعى إلى البطولة التي تخدم الفكرة.
محمود ياسين لم يكن مجرد “ممثل”، بل كان جزءًا من ذاكرتنا الجماعية. هو ذلك الأب في “العمة نور”، وذلك الحبيب في “حب وكبرياء”، وذلك المواطن في “على من نطلق الرصاص”. عرف كيف يمرر إنسانيته من الشاشة إلى القلب.
وفي عيد ميلاده، الذي يمر في صمت كل عام مع غيابه، يتجدّد الشعور بالفقد. ليس فقط فقدان الفنان، بل فقدان زمن كانت فيه السينما تُكتب وتُمثّل وكأنها تُقرأ بصوت محمود ياسين.
لقد جمع بين جاذبية الحضور واتزان الرسالة. بين وسامة الجسد ورجاحة العقل. بين الهدوء الذي يأسر، والغضب الذي يوجع. لم يسعَ إلى “النجومية” بالمعنى الاستعراضي، بل سعى إلى “الرمزية” بمعناها الثقافي.
ولذلك حين نكتب عنه، لا نكتب فقط عن شخص، بل عن مرحلة، عن حالة، عن قيمة. نكتب عن فنان آمن بأن الفن ليس ترفًا، بل ضرورة. وأن الكلمة ليست للتسلية، بل للتنوير. وأن البطل الحقيقي لا يُولد فقط في النص، بل في كيفية فهمه وتمثّله.
في السنوات الأخيرة من عمره، ابتعد محمود ياسين بهدوء. ربما أدرك أن الزمن تغيّر، وأن المشهد الفني لم يعد يحتاج إلى صوته، بقدر ما يحتاج إلى ذاكرته. لكنه، رغم الصمت، ظل حاضرًا. في كل عمل درامي عن الوطن، في كل حوار بين جيلين، في كل فيلم يبحث عن ضمير.
والآن، بعد مضي سنوات على الرحيل، يبقى محمود ياسين علامة فارقة. ليس فقط لأنه شارك في أكثر من 150 عملًا، ولا لأنه وقف أمام أهم نجمات جيله، بل لأنه استطاع أن يحفر لنفسه مكانًا في قلوبنا، ليس كممثل، بل كصوت للحكمة، للحب، للوطن.
في ذكرى ميلاده ، لا نقول وداعًا، بل نقول: شكرًا. شكرًا لأنك كنت الوجه الذي نحلم به، والصوت الذي نثق فيه، والدور الذي نود أن نعيشه.