مسافر زاده الهوان : _

للكاتب والاديب عميد ا.ح رءوف جنيدى

مسافر زاده الهوان : _

عبر سنوات عمره التى ولت . راح الرجل يرمى بسهام عيونه . أحداث ايام ما خلفت له الا وهنا وعذابا .. معاتبا زمنا ما أنصفه . وأياما ما أعانت بعيره على النهوض بحمله بل كانت له القشة التى كثيرا ما قصمت ظهره . وأحنت عوده . وأشعلت فى رأسه شيبا . اندلعت نيرانه لتلتهم كل أخضر . وتحرق كل يابس . كأغنام قوم نفشت فى حرثه . حتى جدبت تربته وتشققت أرضه . وجفت روافد الأمل فى حقوله . فلا وابل يروى ظمأ . ولا طل يبلل جفافا …… القى الرجل برأسه فوق كفه مستندا على ساعده عله يحمل عنه بعضا من همومه وآلامه . التى أثقلت رأسه وأجفلت عينيه . حتى بات لا يرى الدنيا الا شياطين تتراقص . وأحزان تتقافز أمام عينيه . عبر جفنين قرحتهما ايام صعاب . واسدلهما زمن قاسى .وكأن الدنيا قد غشاها من الالم ما غشاها ..
جمع الرجل سنوات عمره صفا . أوقفها أمامه عاما عاما . وراح يتجول أمامها . يحاورها . يستجديها . . يسائلها . بعد أن أذرى به الدهر وتنافست على اذلاله السنون . أكان يستحق منها كل هذا . بعد أن عاشها راض بما قسم الله له . ما مد خلالها عينيه الى ما متع الله به غيره …… داولته السنون فيما بينها . طأطأ رأسه أمام بعضها . وطأطأت سنوات رأسها أمامه خجلا وحياءا . فكم كانت قاسية عليه ………. وأمام إحداها وقف الرجل طويلا وقد وضع يديه فوق كتفيها . وراح يدقق النظر فى عينيها . نعم هذا هو العام الجائر الذى رحلت فيه رفيقة العمر وشريكة الكفاح . بعد صراع طويل مع مرض خبيث . أكل عودها وأسقط عنها جمالها . تاركة له ولدا وبنتين فى عمر الصبا والشباب .
دارت رحى السنين تطحن بلا هوادة أيامه ولياليه . تسحق بلا رفق آماله وأحلامه . ذلك الابن الذى طالما تمناه الاب سندا له كلما مال . ذلك الابن الذى رزق منه بحفيدين كانا هما شعاع الأمل الذى يومض عند نهاية نفق حياته المظلم . ولكن للقدر خطاه التى تدب فوق صدورنا دبيب أفيال عمياء . وتضرب كطوفان يغرق خلجان الحياة بلا عاصم . وكأن التنور قد فار فى بيت الرجل قبل أن يكمل الرجل بناء شراعه . فقد مرض الابن مرضا عضالا . فيا له من ميراث ثقيل ورثه الابن عن أمه . عادت ملامح الأسى تطل من جديد عل وجه الابن . ابيضت عينا الأب من الحزن . ضاق به الحال فلا العيون بصيرة . وما الايدى الا قصيرة .

غادر الرجل عامه هذا مترجلا أمام بقية العمر . يجر فى عقبيه هموما راسيات راسخات . واقفا أمام سنة أخرى ترمقه بعيون وقحة . تلك السنة التى أتت فيها ابنته تحمل جنينها فى شهره الرابع . بعد أن مات زوجها إثر سقوطه من إحدى العمارات تحت الانشاء حيث كان يعمل . ليبدأ الرجل طورا جديدا من أطوار الأبوة المتأخرة لحفيد لم يعد يسعده انتظاره . بعد أن خلا الجسد من عافيته وخلت حافظته من المال . وبعد أن مادت الأرض من تحت قدمى الرجل . و انحنى الظهر بعد أن اكلت دابة القدر منسأته . و اشتعل الرأس . و أسدلت الجفون الا من شحيح بصر . 
اشتد المرض بالابن واشتدت الحاجة . وراح الرجل ينظر إلى بقية عمره سائله الرفق والهوادة . وسائلا ربه الصبر فى زوجة رحلت وابنة ترملت وابن يصارع المرض على فراش الموت . صرخة مدوية أطلقها الرجل فى وجه هذا العام الذى بدت أيامه باردة برودة أجساد الموتى . بعد أن رآه واقفا بكل برودة وبلادة . تذكر وقت أن اتشحت بعض أيامه بالسواد يوم أن فاضت روح الابن والد الحفيدين الى بارئها . رفع الرجل يمينه يهوى بها لاطما وجه هذا العام

طاحت ذراع الرجل فى الهواء . اختل توازنه . سقط على الارض بعد أن خارت قواه . أعياه التجول على سنوات عمره . استقر الرجل عند السبعين منها . استرد عافيته قليلا . غادر ارض الهموم . متوجها إلى محطة القطار . استقل أحدهم . لا يعلم الى اين هو ذاهب . لاقاه مسئول العربة . إلى أين أنت ذاهب يا سيدى . قال : الى أرض ليست فيها قسوة . ليس فيها فقر . ليس فيها موت ولا فراق . أجابه يا سيدى ليس على خط سيرنا محطة بهذا الاسم . ولا أرض كالتى تنشدها … عد الى حيث أتيت ..
عاد الرجل يلف كهولته فى ثيابه . جلس بجوار شخص يقرأ القرآن . ألقى برأسه إلى الخلف قليلا . سمع من جاره قول الحق ( افمن وعدناه وعدا حسنا فهو لاقيه كمن متعناه متاع الحياة الدنيا ثم هو يوم القيامة من المحضرين ) . عاد الرجل راض بقضاء الله وقدره . عاد آملا فى الله خيرا . بعد أن أيقن ما سمع وزاده يقينا قول الحق : ( انما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب ) . وبعد أن علم أن من قطع الوعد على نفسه هو الله الذى لا يخلف الميعاد . والذى قال فينا ( ما يبدل القول لدى وما أنا بظلام للعبيد ) صدق الله العظيم … ……….

قد يعجبك ايضآ
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.