من مقاصد الحج 2 بقلم فضيلة الشيخ أحمد على تركى

من مقاصد الحج 2

بقلم فضيلة الشيخ أحمد على تركى

مدرس القرآن الكريم بالأزهر الشريف

رابعا: التدريب العملي على مفارقة الحياة الدنيا:

‏1‏ـ غسل الإحرام يذكر الحاج بغسله ميتاً وهو لا يملك لنفسه شيئاً بين أيدي مغسله،‏ والغسل رمز للتطهر من الذنوب والآثام‏.‏
‏2-‏ والإحرام يذكر الحاج بالخروج من الدنيا بلا أدنى زينة أو ملك، كما يذكره بالكفن الذي سوف يُلف فيه جسده بعد تغسيله.‏
‏3‏ـ والنية عهد بين العبد وربه‏.‏
‏4-‏ الوقوف عند الميقات يذكر الحاج بأجله الذي حدده الله تعالى له، والذي يقول فيه:‏ ﴿وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَاباً مُّؤَجَّلاً﴾ (‏آل عمران‏:145)‏.
والانتقال من الحِلَّ إلى الحرم عبر الميقات يذكر بالانتقال من الدنيا إلى الآخرة عبر الموت‏،‏ والتلبية نداء إلى الله، واستنجاد برحمته، واحتماء بحماه‏.‏
‏5-‏ والطواف حول الكعبة المشرفة يذكر بضرورة الانتظام مع حركة الكون في خضوعه لأوامر الله تعالى وانصياعه لقوانين هذا الخالق العظيم وسننه في عبادة وذكر دائمين‏،‏ كما أن بداية الطواف ونهايته تؤكدان بداية الأجل ونهايته‏،‏ وهي حقيقة يغفل عنها كثير من الناس حتى يفاجئهم الموت وهم أصفار الأيادي من الحسنات، فخسروا الدنيا والآخرة. والرَّمَل والاضطباع في طواف القدوم إحياء لسنة خاتم الأنبياء والمرسلين ﷺ.‏
‏6-‏ والصلاة في مقام إبراهيم تذكر بجهاد الأنبياء والمرسلين، وبمقام الصالحين عند رب العالمين‏.‏
‏7-‏ والشرب من ماء زمزم يؤكد قدرة رب العالمين التي لا حدود لها، ولا عائق أمامها، إن أراد إكرام عباده الصالحين الواثقين به حق الوثوق، والمتوكلين عليه حق التوكل.‏
‏8-‏ والسعي بين الصفا والمروة يذكر بأم إسماعيل عليهما من الله السلام وهي تركض بين هذين التلَّين بحثاً عن الماء لصغيرها، ونتيجة لإخلاصها، ولثقتها بربها أكرمها الله تعالى بجبريل يضرب صخور أرض مكة بجناحه، أو بعقبه فيفجر ماء زمزم‏ من تلك الصخور المصمطة التي لا مسامية لها‏.‏
‏9-‏ والنفرة إلى منى ثم إلى عرفات تذكر بيوم البعث في زحامه وشدته وأهواله.
‏10-‏ والوقوف بعرفات تذكر بالحشر وبالعرض الأكبر بين يدي الله تعالى وبالحساب والجزاء‏.‏
‏11-‏ والمبيت بالمزدلفة يذكر بآلاف الأنبياء ومئات المرسلين الذين حجوا من قبل، والذين نزلوا بهذا المنزل؛ تأكيداً على وحدة الدين، وعلى الأخوة بين أنبياء رب العالمين، وإحياءاً لسنة خاتمهم وإمامهم ﷺ.

‏12-‏ والنحر والحلق أو التقصير يذكران بفداء الله لنبيه إسماعيل عليه السلام؛ إكراماً لطاعته وطاعة أبيه إبراهيم عليهما السلام لأوامر رب العالمين، وإحياءً لسنة خاتم الأنبياء والمرسلين، ورمزاً للتطهر من الذنوب والآثام.‏

‏13-‏ ورمي الجمار تأكيد على حتمية انتصار العبد المؤمن على الشيطان في هذا الصراع، والرجم رمز لذلك الانتصار، وعهد مع الله تعالى على تحقيقه‏.‏

‏14-‏ والتحلل من الإحرام، وطواف كلٍ من الإفاضة والوداع رمز لانتهاء هذه الشعيرة العظمى، وعودة إلى دوامة الحياة الدنيا من جديد بذنب مغفور، وعمل صالح مقبول، وتجارة مع الله تعالى لن تبور إن شاء الله. ومن هنا كان واجب الحاج (بعد عودته من حجه) أن يبدأ مع ربه صفحة جديدة، إطارها الفهم الصحيح لرسالة الإنسان في هذه الحياة‏:‏ عبداً لله يعبده سبحانه وتعالى بما أمر، ويجاهد بصدق من أجل حسن القيام بواجبات الاستخلاف في الأرض بعمارتها، وإقامة دين الله وعدله على سطحها‏،‏ والدعوة إلى هذا الدين بالكلمة الطيبة والحجة الواضحة والمنطق السوي من أجل إنقاذ أكبر عدد ممكن من الناس من عذاب الآخرة.‏

‏15-‏ وفى جموع الحُجَّاج من كل عرق ولون وجنس ولغة، وهم يتحركون في موكب واحد لأداء هذه الفريضة الكبرى؛ تأكيد على وحدة الجنس البشري المنبثق من أب واحد وأم واحدة، هما آدم وحواء عليهما من الله السلام، وتأكيد على وحدة رسالة السماء، وهي الإسلام العظيم، وعلى الأخوة بين الأنبياء، وعلى وحدانية رب السموات والأرض- بغير شريك ولا شبيه‏،‏ ولا منازع‏، ولا صاحبة‏،‏ ولا ولد‏- والخالق منـزه تنـزيهاً كاملاً عن جميع صفات خلقه، وعن كل وصف لا يليق بجلاله.

خامسا: خروج الحاج من هذه الرحلة المباركة بالتدرب على عدد من الخصال الحميدة التي منها ما يلي:

‏1-‏ الزهد في الدنيا والحرص على الآخرة‏؛‏ وذلك لأن الدنيا مهما طال عمر الإنسان فيها فإن نهايتها الموت‏،‏ والآخرة خلود بلا موت، وليس معنى ذلك إهمال مسئوليات الإنسان في الدنيا؛ لأن الإنسان مطالب بالنجاح فيها ولكن ليس على حساب الآخرة‏.‏
‏2-‏ اليقين بأن الحج يطهِّر من الذنوب والآثام انطلاقاً من قول رسول الله ﷺ: “من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه” (البخاري ومسلم)‏.‏
ولقوله ﷺ لعمرو بن العاص رضي الله عنه حين قدم لمبايعته‏:‏ “أما علمت أن الإسلام يهدم ما قبله، وأن الهجرة تهدم ما قبلها، وأن الحج يهدم ما قبله؟” ‏(‏رواه مسلم‏).‏
وانطلاقاً من هذا اليقين، كان واجباً على كل من أدَّى فريضة الحج الحرص الشديد على عدم الوقوع في معاصي الله‏.‏
‏3-‏ والحرص على أداء العبادات المفروضة في وقتها، وعلى الإتيان من النوافل قدر الاستطاعة‏.‏
‏4-‏ التمسك بطهارة النفس، واستقامة السلوك، وعفة اللسان، وغض البصر، والتحكم في الشهوات والرغبات والأهواء، وكظم الغيظ، والعفو عن الناس‏،‏ وصدق الحديث‏،‏ ورقة التعامل مع الآخرين‏،‏ والتواضع للخلق‏،‏ وحسن الاستماع والإتباع‏،‏ والاحتشام في الزى والهيئة‏،‏ وإخلاص السرائر‏،‏ واجتناب سوء الظن بالآخرين في الأحكام عليهم‏،‏ والتوسط والاعتدال في كل أمر‏،‏ والثبات على الحق، والمجاهدة من أجل نصرته، وتحمل تكاليف ذلك‏،‏ والحرص على العمل الصالح، والتنافس فيه حتى يكون في سلوك الحاج قدوة حسنة لغيره‏.‏
‏5-‏ الحرص على التزوُّد من العلوم الشرعية‏،‏ والتفقه في الدين‏،‏ والالتزام بما يتعلمه؛‏ وذلك لأن الإسلام دين لا يُبنَى على جهالة‏،‏ وإنما يُبنَى على علم والتزام. ومصدرا التلقي للمسلم هما كتاب الله وسنة رسوله‏ ﷺ،‏ وعلى كل مسلم أن يجتهد في التعرف على أوامر الله تعالى ويُلزِم نفسه وأهله بها‏،‏ وفي التعرف على نواهيه فيجتنبها ويحاربها‏،‏ فإن انغلق عليه أمر من الأمور فعليه بسؤال أهل الذكر كما قال ربنا تبارك وتعالى‏:‏ ﴿‏…فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾ (النحل‏:43).
‏6-‏ الحرص على الكسب الحلال‏،‏ وعلى طيب المَطْعَم والمشرب‏، وعلى البعد كلَّ البعد عن الشبهات والمحرمات.‏
‏7-‏ المواظبة على الصحبة الطيبة‏،‏ وعلى التزام جماعة المسلمين‏،‏ وعلى الولاء لهم‏،‏ والبراء من غيرهم‏،‏ وفي ذلك يقول ربنا تبارك وتعالى مخاطباً خاتم أنبيائه ورسله ﷺ:‏
‏﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً﴾ ‏(الكهف‏: 28).
‏8-‏ الاهتمام بقضايا المسلمين الكبرى‏،‏ ومن أبرزها قضايا الأمية بشقيها (أمية القراءة والكتابة وأمية العقيدة) وقضايا الحريات، وقضايا التخلف العلمي والتقني‏,، وتفشي كلٍ من الفقر والمرض، وقضايا تحرير أراضى المسلمين المحتلة من مثل أراضى كل من فلسطين، العراق، وأفغانستان، وجنوب الفلبين، أراكان، سبتة، ومليلة وجزيرة ليلى وغيرها من الجزر المغربية، والأراضي الإسلامية المغتصبة.
9-‏ المساهمة الفعالة في الدعوة إلى دين الله بالكلمة الطيبة، والحجة الواضحة، والمنطق السوي‏.‏
‏10-‏ العمل على جمع كلمة المسلمين في وحدة كاملة ـ ولو على مراحل متتالية.

يتبع ..

اقرأ المزيد

 

من مقاصد الحج 1 بقلم فضيلة الشيخ أحمد على تركى

قد يعجبك ايضآ
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.