ميلاد شهيد
قصة قصيرة للكاتب العميد ا.ح رءوف جنيدى
ميلاد شهيد !
على رجع ألحان أيام خوالى، كانت من أجمل أيام العمر، رقص قلب الحسناء، عندما مر بخيالها طيف حبيبها الذى سافر بعيدًا، وحيث تقتضى ظروف عمله كضابط بالقوات المسلحة أن يغيب عنها أيامًا وليالى .. تاركًا لها نبض قلبه، عله يؤنس وحشتها هي وطفلتهما ذات السنوات الثلاث .. تاركًا لها فيضًا من المودة والرحمة، ما يغمر زيجات الدنيا برًا وعرفانًا .. تاركًا لها أحاسيس تنساب رقة وعذوبة فى جنبات بيتها .. كادت تشم فيها طيب قلبه، وعبق حنانه، بين طيات الملابس، وفوق أسطح الأثاثات .. تاركًا لها طفلته ذات الوجه الملائكى، والتى تشبهه كثيرًا فى براءة قسمات وجهه، ما جعلها للأم صبرًا و سلوانًا .. تشبع منه العين وتروى منه ظمأ القلب، لحين عودة حبيب العين، وسيد القلب، من عمله مرة أخرى .
وعلى همهمات أنفاسها، وطنين قلبها، راحت تعيد ذكريات انتظاره خلف نافذتها، التى كان يهب منها دائمًا عبق قدومه، وأولى إطلالاته، التى كانت تراقص نياط القلب، وتدلل شغافه .. ليلة ساحرة الجمال، قضتها خلف نافذتها، تشاركها حفل انتظاره، طرقات حبات المطر على زجاج النافذة، كنقر أصابع الرجاء على دفوف الأمل، عساه ألا يغيب، بعد أن اكتسى الأفق أمام نافذتها، ومن حولها، برداء ثلجى اللون، مخملي الملمس، عله يطفئ لهيب قلب .. تمني، وشوق وجدان تاقٍ .
خيوط حريرية التفت حول جسدها الغض، وكأن السحاب قد سكب فضته عليها، لتعيش عذراء يافعة، داخل تابوتها الحريرى، حتى يأتي سيد العمر، ليفض عنها محرابها، فتخرج له فراشة بيضاء من غير سوء .. ترفل فى جنبات حياته .. تتدلل فوق أكتافه .. تضرب بجناحيها، فتهيل على جفنيه دقائق الوجد، والحنان .
نامت الحسناء ليلتها، فى طور من أجمل أطوار الحياة .. ليلة انتظاره، بعد أن افترشت بهو قلبها بأرق المشاعر، والأحاسيس .. بعد أن زينت جدرانه بأجمل الذكريات، وأركانه بباقات الود، والغرام .
استيقظت الحسناء من نومها، فى انتظار موعده .. الروح تهفو، والقلب يخفق، والجوارح تنتفض .. اقترب الموعد .. هرعت إلى النافذة، التى كثيرًا ما رأت منها فارس الأحلام .. لحظات قليلات ، وظهر لها على قارعة الطريق المؤدية إلى قلبها .. شابًا يافعًا نافعًا لها، ولوطنه .. ممشوقًا فى زهو، وخيلاء، ولِمَ لا وهو يحمل على كتفيه شرفًا لا يدانيه شرف، وبين جنبيه نفس طاهرة، تقدم كل غالٍ ونفيس، للزود عن الوطن، كلما ناداه، ملبيًّا نداء الواجب ؟! فهم بحق “رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فمنهم من قضى نحبه، ومنهم من ينتظر” .
سارعت الحسناء لتفتح باب مملكتها، وباب قلبها .. ارتمت في أحضانه .. تمنت لو تعلقت فى كتفيه، كما تعودت، إلا أن حملها الذى دخل شهره التاسع حال بين دلالها، وأحضانه، وحيث بشرها طبيبها بأنه هذه المرة لولد .. كم تمناه الأب، ودعت الزوجة أن يكون ما فى بطنها هو أمل سيد القلب، وساكنه .
قضى الضابط، وحسناؤه وابنته، أجمل أيام العمر .. يرفلان معًا بين طيات السعادة .. عازمٌ كل منهما على أن يكون للآخر بستانه، الذى يطلق فيه طائر قلبه هائمًا بين زهراته، كيفما شاء، فكان لها العطاء، بعد أيام الوحشة، ووحدة الروح، وبعد سهد ليال طوال، قضتها وحيدة الوجدان .. وحيدة الفراش .. فلا أنيس يؤنس الروح، ولا طيف حان يهدهد القلب .. كانت له زهرته الندية الفواحة دائمًا بشذى الحب، و المودة، والتى، دائمًا، ما كان يشم عبيرها فى صحرائه القاحلة، التى ما كانت تنبعث منها إلا رائحة الموت، بعد انفجارات الخسة، والجهالة .
انقضت إجازته سريعا .. أما آن لعقارب الساعة أن تتوقف قليلا ؟! .. أما آن للزمن أن يستدير ليرى كم هما سعداء ؟! .. ولكنها الحياة بحلوها، ومرها .. بجدها، ومرحها . بين واحة غناء، فياضة بطيب المشاعر، من زوجة حنون، وابنة دونها البدر، إلى صحراء جافة، تنعق فيها الوحشة، وتتقافز فيها أمامهم شياطين الانس .
غادر الضابط إلى سيناء، حيث يعمل .. غادر محمولًا على خفقات قلبها .. غادر تودعه ابتهالات روحها، وتضرعها إلى الله أن يحفظ لها زوجها .
مضت الأيام ثقيلة جافة .. اقترب موعد قدومه، واقترب، أيضًا، موعد قدوم الابن .. تواصلت معه، لتخبره بموعد ولادتها، وأخبرها بأنه آتٍ على موعدها .
وفى صبيحة يوم ولادتها، دوت صرخاتها، معلنة قدوم الابن، ودوى فى موقع الزوج انفجار، معلنًا عن سقوط ضحايا، ونقل الزوج إلى مستشفى للعلاج، مضرجًا فى دمائه، ونقلت حسناؤه لمستشفى للولادة، مضرجة فى قلقها عليه، وكأنهما على موعد مع قدر الله .. فاضت روحه إلى بارئها، وفاض رحم الأم بالابن المنتظر .. طلقة غاشمة خسيسة أزهقت روحًا، وطلقة إلهية معطاءة أوجدت روحًا .. سكت صوت الأب إلا من ندائه :
“ابنى : أن جرى فى ثراها دمي، وأطبقت فوق حصاها اليدا، ففتش على مهجة حرة، أبت أن يمر عليها العدا”، ليطلق الابن صرخاته مدوية معلنا رفضه، وإصراره على الثأر، وكأنه يهتف : “أبى : فوق أرضي لن يمروا، وبها لن يستقروا” .. منذ اليوم .. منذ .. ميلاد الشهيد !
(المبدع .. العميد / رءوف جنيدي)