نحو الريح …بقلم طارق عبداللطيف

اديب من فائزينا في مسابقة كنوز المبدعين
رائع ولكنه قليل الانتاج
واليوم يعود بابداع جديد
ليؤكد ان المشاهير بالفعل قدمت كنوزا للابداع
انه طارق عبداللطيف الذي يغيب ليعود بكنز جديد
====

كتب
طارق عبد اللطيف

===========
كان عاكف مازال يجلس محملقاً في جهاز الحاسوب أمامه منذ دلف إلي العمل ..
كان من ينظر إليه يخاله ميتاً .. إلا أنه كان يتنفس.. بين الحين والآخر!!
كانت الصور والكلمات تمر أمام عينيه علي شاشة الجهاز ويتابعها هو ويسجلها بشكل آلي.. وكأنه جهاز آخر!!
حين تخاطرت الي المكتب السكرتيرة الحسناء التي مازالت في ريعان الصبا.. قائلة بصوت هو أقرب إلى صلصلة الأجراس..
– مستر عاكف .. تأمرني بشيء؟
رفع عاكف عينيه عن شاشة الجهاز.. ونظر إلي السكرتيرة.. فرآها وقد انطبعت على وجهها وثيابها تلك الأرقام التي كانت أمامه على الشاشة.. إحتاج إلى ثوانٍ عدة حتى يدرك أين هو .. بل من هو!!
– هي الساعة كام؟
– الساعة خمسة يا فندم
– ياااه
قالها وصمت..
لقد مر اليوم سريعاً .. أو لعله كان بطيئاً ومملاً؟!! .. لم يدري
ولكن اليوم مر علي كل حال.
– هل تريد أن أنتظر مع سيادتك؟
– لا شكراً .. سأغلق الجهاز وأنصرف حالاً.. أشكرك
وخرجت.. وللحظة سرح في عطرها الخلاب الذي خلفته في المكان.. يالها من رائحة طيبة
ملأ رئتيه من هذا الهواء ذو الرائحة الزكية.. وتحركت ذاكرة الشم لديه لتذكره بأن هذا العطر قد تم تسجيله في ملفات الذاكرة من قبل!!
حاول جاهداً أن يسترجع ذكرى ذلك العطر.. ولكن أبت أبواب ذاكرته أن تنفتح.. وكأن مزاليجها الصدأة قد أغلقت منذ عهود!!
ولكنه عطر طيب علي أية حال.
أغلق الجهاز.. وانطفأت شاشته مع نغمة موسيقية أكدت له أن الجهاز قد خلد إلى النوم..
قام عاكف من على مكتبه.. وبدأ يستعيد الشعور برجليه وأقدامه
أحس أن الحذاء ضيقاً على قدميه حد الجحيم.. وأن أصابعه المسكينه تكاد تخرج صارخة معترضة على ما لاقته من حبس طوال اليوم!!
وقف معتدلاً كتمثال من رخام..
وارتدى سترته..
وأعاد الكرسي إلى مكمنه تحت المكتب.. والتقط ميدالية مفاتيحه وهاتفه
وقلب بنظره المكان.. ولما تأكد للمرة التاسعة أنه لم ينسى شيئاً.. تنهد في قلق .. وخرج من المكتب.
كان الموظفون يتدافعون للخروج وكأن حريقاً قد شب خلفهم في البناية!!
إنهم يدخلون صباحاً زاحفين.. ويلقون التحية علي بعضهم .. ويتمهلون بخطوات مترددة في الدخول!!
أما عند الخروج.. فالذي يفعله الجميع هو الفرار وكأنما الجحيم بالداخل!!
توجه عاكف إلى سيارته.. فجاءه السايس يهرول في خطوات واسعة وهو يلوح بالمفاتيح
– لا مؤاخذه يا أستاذ عاكف
نظر عاكف إليه بنصف عين.. وبربع ذهن.. وإن كان قد بدا على وجهه أنه يسمع
– أصل الواد ابراهيم .. بتاع السوبر ماركت .. وهو بيركن التروسيكل حك في عربية سيا..
لم يستمع إلى باقي الكلمات.. وإنما توجهت عيناه صوب السيارة.. فرأى جانبها الأيمن يشكو إليه سوء أمانة السايس.. وسفالة صبي البقال.
– انا بهدلته والله .. وعم شاكر أخد رقم تليفون حض..
لم يسمع باقي الكلمات مرة أخرى
فهو يعرف نهاية هذا المشهد.. لقد رآه مائة مرة..
كتم غيظاً في داخله.. وانطلق في رأسه سؤال ملح .. ان لم تكن تحرس السيارات.. فعلام تتقاضى تلك الإتاوة التي تلهفها مني كل شهر؟!!!!
ولكن السؤال لم يغادر خلايا مخه ولم يتحرك جهازه العصبي لإطلاق الأوامر للسانه للنطق به..
بينما أعلنت مراكز التفكير في رأسه أنه لا فائدة من الكلام..
فتح شفتاه ونطق من بين أسنانه..
– المفاتيح.
– انا قلتله والله ان أستاذ عاكف مش هيقبل العوض
دخل الى السيارة
– ربنا يكرمك يا عاكف بيه .. ربنا يـ..
تكفل إغلاق الباب بحجب صوته الكريه.. وأكمل هدير المحرك تلك المهمة الرائعة فأخفيا معاً صوت السايس اللعين.. الذي رآه في المرآة حين تحركت السيارة.. مازال يلوح ويتراقص كبهلوان في سيرك .. يؤدي فقرة يومية سخيفه .. لم تعد تضحك سواه
تحركت السيارة.. وانطلقت أصابعه لا إرادياً لتقوم بتشغيل الراديو
نفس المحطة.. نفس المذيع.. ذات الكلمات..
حتى أن الشك قد إنتابه يوماً وفحص الجهاز ليتأكد أنه يقوم بتشغيل الراديو وليس جهاز التسجيل!!!
سار على نفس الطريق.. تمر من حوله تقريباً نفس السيارات التي تمر معه في نفس التوقيت من كل يوم!!
وانطلق رنين الهاتف اللعين .. بالرنة الوحيدة المخصصة في جهازه.. إنها زوجته
نظر إلى الهاتف وكأنه يسأله.. ماذا هناك؟ هل الأمر يستحق؟
وقبل أن تلفظ رنات الهاتف أنفاسها الأخيرة.. كان قد فتح الخط
– آلو
– أيوه.. إيه يا عاكف كلمتك ثلاث مرات ولم..
ولم يسمع باقي الكلمات .. فهو يحفطها عن ظهر قلب.. ستؤنبه وستلومه لأنه لم يسمع رنات الهاتف طوال اليوم حين كان يعمل كالحمار!!
ولن تنتهي مكالمتها قبل أن تطلب شئياً آخر
– لا تنسى أن تحضر معك طعاماً للقطط فقد نفذ طعامهم منذ الأمس.. ولم أستطع النوم بسبب مواؤهم .. بينما كان شخيرك يقوم بالباقي .. انني أحسدك على سرعة نومك.. انك..
لم يستمع إلى باقي الكلمات أيضاً
– ما تتأخرش
– سلام
قام بمحاذاة السيارة الى جانب محل الحيوانات الأليفة الذي يبتاع منه كل مرة طعام القطط.. فهم لا يأكلون إلا نفس النوع
– لو سمحت
– أهلا أستاذ عاكف.. ثوان من فضلك انتهي من طلب المدام وأكون معك
تأمل المكان من حوله.. المكان ممتليء بالقطط والكلاب والسلاحف وأسماك الزينة.. وقفص كبير مملوء بالعصافير
نظر إلى القفص فلفت نظره ذلك العصفور الجميل الأبيض.. أحس وكأن نظرات العصفور موجهة له دون سواه .. شعر بها وكأنها تخترقه!!
ترى ما الذي يجعل هذا العصفور متميزاً عما سواه من الطيور داخل القفص؟!!
ترى هل هو لونه الأبيض المتلاليء الذي لا يشبهه عصفور آخر في القفص
يالجمال هذا العصفور.. يالروعته.. ويالشقاؤه في هذا القفص الجميل!!
– أؤمرني يا عاكف باشا
– بكم هذا العصفور؟
– ببلاش عشان خا..
– العصفور الأبيض
– خمسون جنيهاً فقط.. القفص وأدواته..
– أريده وحده دون قفص
– إذن تحتاج شياله لتنقله للمنزل .. عشان حض
أنهى الحوار بأن وضع الخمسين جنيهاً في يده وبيده الأخرى أغلقها له عليها
– أعطني العصفور.. سأحمله في يدي
– تحت أمرك
مد يده إلى القفص والتقط العصفور الذي بدا منتظراً لذلك.. وأخرجه واضعاً إياه في يد عاكف
أمسكه عاكف بقبضة يده ونظر ملياً إلى وجهه البريء.. ود لو قبل رأسه
شعر بالطائر ينتفض وكأنما يبغي الفرار من بين أصابعه.. فأحكم عليه قبضته
ورفع ذراعه نحو السماء ليسمح للعصفور أن يتنسم الهواء..
رفع ذراعه قدر ما استطاع
وارتسمت على شفتيه إبتسامه.. ولمعت عيناه.. وبدا وكأن وجنتاه وشفتاه قد أصبحتا أكثر إحمراراً !!
نظر نحو الطائر .. وبهدوء فتح أصابعه
وأطلق العصفور نحو الريح!!!

طارق عبد اللطيف
15 ديسمبر 2020

قد يعجبك ايضآ
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.