ندّاهة الدُّمي.. قصة
بقلم / سحر عبدالقوي
على باب بيتي طرقات، على الباب تقف امرأة شحاذة تطلب إحسانا. أعطيتها خمس جنيهات، رفضتها لأنها بحسب ماقالت تريد ثمن لعبة تشتريها لطفلها. اندهشت لامرأة تتسول ثمن دمية: دمية وليس ثمن خبزا ولا علاجا ولا ثمن مصاريف المدرسة!
وفي السوق استوقفتني شحاذة أقسمت عليّ بدم المسيح أن أعطيها شيئا ظناً منها أنني مسيحية. أدخلت يدي في جيب حقيبتي الخارجي واعطيتها ما خرج في قبضتي. ثم استوقفتني طفلتها تتوسل إلي أن أشتري لها دمية!
هل الدمي ولعب الأطفال أساسيات يتسول من أجلها الناس أموالا من المارة؟
لا أذكر امتلاكي لدُمى كثيرة عندما كنت صغيرة. لم أسأل لماذا لم امتلك إلا أقل القليل. لم تكن لديّ رفاهية السؤال. كنت طفلة وحيدة خجولة. أذكر “كٌتكٌت” لعبة على شكل كتكوت بصفارة داخلية بحجم كف شخص يافع اشتراها لى أبي من على كٌبري في إحدي مٌدٌن محافظة البحيرة. كان عائدا من مركز التدريب الذي جمعوهم فيه عندما كادت مصر إن تتدخل في معركة الفاو بين العراق وإيران. لم يذهب أبي للفاو، ولفرط سعادته ابتاع لي هذه الدمية الرخيصة. كنت أحب هذا الكتكوت. ومازال موجودا في مكتبتي بين أشيائي القديمة. كنت أحدثه، وأُطعِمه، وأنادي عليه ليشاركني الاستحمام فأفسدت المياه صفارته. كنت أضع البطاطس المقلية والبيض المقلي في فيه الذي يشبه منقار صغير البط ليشاركني طعامي وكانت أمي تتقبل ذلك مني تحفيزا لى لأتناول طعامي كله، ثم تغافلني وتنزع الطعام من فيه وتلقيه في القمامة خشية أن تمتد له يدي وآكله وأصاب بنزلة معوية. وعندما يتلاشي الطعام كنت اقتنع أن “كٌتكٌت” أكل بالفعل. كانت لي حياة كاملة مع “كٌتكٌت” ومغامرات. وكان يؤنس وحدتي. أذكر أن صنعت لي أمي عروسا من القماش والقطن. لم أحب العروسة لأن أمي لم تكن صانعة عرائس محترفة_ربما_ ولأنها كانت عارية بلا فستان، ولأن وجهها كان قبيحا. لم أمنحها اسم حتي كما فعلت مع دميتي الأولى. أنا أحاول الآن أن أفهم مشاعري الطفلة لكن الحقيقة أنني لم أحبها، رغم ذلك كنت ألعب بها.
اشتري لي أبي بعد خمس أعوام بيانو على شكل تورتة مغروس على جانبه شمعة، فرحت به. وكنت ألعب به كثيرا رغم أنني لم أحسن العزف يوما لكنني كنت أحب انبعاث النغم من بين أحشائه استجابة لأناملي الصغيرة. وكنت أحب الفيونكة الحمراء الموجودة على جانبه والتي كانت زراً عند تحريكه يعزف البيانو موسيقي عيد الميلاد. كنت أشغلها وأتظاهر بأنني أعزف وبأن الموسيقي هي نتاج عزف أصابعي على البيانو. لكن لم ينبهر أحد بعزفي المزيف_تحديدا لم يدعي أحد الانبهار، وبشكل أكثر دقة لم يلتفت لي أحد.
كانت المساحات الخضراء الواسعة في مستعمرات شركات السكر معوضة لحرماني من الدٌّمي. كانت الأشجار لعبتي. شجر “الساسابان” كنت اقطف فروعه الدانية وافكك اوراقه الصغيرة واصنع كومة من اوراق كل فرع. كانت تلك لعبتي في فترة الظهيرة والآباء نيام. وكنت أستمتع “بالزوحليقة” الموجودة في مقدمة النادي. المساحات الواسعة في النادي سمحت بلعب الاستغماية والسبع طوبات وصيادين السمك. والباحات الواسعة بين العمارات المظللة بأشجار الظل والفواكه سمحت بذلك في فترات النهار إضافة للعبة “الرستة أو الأولى”.
كانت ألعاب اطفال الجيران ألعابي. كنا نلعب جميعا بألعابنا. فأذكر أنني لعبت صيادين السمك مع مينا وأليس وكيرلس أولاد عمو نادي جيراننا الطيبين الذين تربيت في منزلهم وتربوا في منزلنا. وأذكر أنهم لعبوا معي السلم والثعبان والكوتشينة . كانت “طنط فيريال” أم مينا “وأليس” التي كنا نناديها “إيسي” و”كيرلس” الذي كنا نناديه “كركر” الصغير باذخة في شرائها للدمي. كانت تشتري كل أسبوع لهم دمية جديدة. وكان هذا مثار استغرابي. لأنني لم أفهم لماذا تشتري دمي كثيرة. لم يكن السؤال أبدا هو لماذا لا تشتري لي أمي أو ابي مثلها. لأن الطبيعي في وجهة نظري آنذاك هو فعل أمي وأبي أما فعل “طنط فيريال” فكان غريبا وشاذا!
كوم امبو التي قضيت طفولتي في مستعمرتها كانت مدينة فقيرة المحال منذ خمسة وعشرين عاما. لم يكن بها هذا الكم من محال الملابس ولا محال ملابس الأطفال ولا محال ألعاب الأطفال. كانت مدينة بائسة لا يوجد فيها إلا عمر أفندي وشركة بيع المصنوعات وباتا ومحال مثناثرة فقيرة الذوق والإمكانيات. لكن كان بها محل كبير في شارع بورسعيد كان به لعب أطفال. عندما كنت أمر بصحبة أمي بجواره كنت أشعر أنني أمر أمام بوابة بلاد العجائب. كانت عيناي تتعلق بفاترينة المحل. أما أمي لم تكن تنتبه للمحل. ولا لعيني المتعلقة بالدمى والعرائس. أنا لا أطلب، أنظر فقط وأحيانا أشير وألمح. لم أكن طفلة لحوحة. هل هذا خجل؟ أم خوف؟ أم طاعة؟
علمتني أمي ألا أقول أريد هذا ونحن بالسوق. ولا أطلب الطعام أو الشراب ونحن ضيوف، وأن أهمس فقط. كنت مطيعة على عكس طبيعة الاطفال. لماذا كنت مطيعة؟ لماذا أنا مطيعة؟ لماذا ينشأ البعض مطيع والبعض متمرد؟ لا أعرف لكنني كنت أكتفي بالايماء نحو الفاترينة وتعليق عينيّ على عجائبها. ولم تفهم أمي الإشارة في أي مرة ولا أبي!
ربما الأمر مرده اختلاف ثقافات؟ ربما. ربما لأن أبي وأمي منحدرين من اسر تعتبر أن توفير الطعام والشراب والتعليم والعلاج هو الاساس وأن شراء الدمي للأطفال تبذير ونوع من السّفَه. مَرَد الأمر عند أمي نقصان الوعي. بينما عند أبي تتداخل عوامل كثيرة ابرزها مثلا أنه كان غير راضيا عن كوني أنثي كمعظم رجال الصعيد الرافضين لبناتهم أو الكارهين لبناتهم. أذكر أنني مرضت في يوم وحملني أبي للطبيب وفي طريق العودة الذي يجب فيه أن نمر بشارع بورسعيد مررت على واجهة بوابة بلاد العجائب، محل الدمي ذاته، فقررت أن ندخله. كان عمري عشر سنوات وكنت على مشارف مراهقتي لكنني طلبت بصراحة من أبي أن يبتاع لي لعبة “صيادين السمك”. ولأن الطلب صريح ولأنني وقتها غادرت منطقة التلميح الرمادية كما غادرتني الطفولة وداهمتني الأنوثة داهمته أنا بالأمر المباشر:
“بابا يالا ندخل المحل دة عشان عاوزاك تشتريلي حاجة”.
“حاجة ايه؟ ”
“لما ندخل هاقولك…ولا معكش فلوس؟”
“لاء معاية”
“طالما معاك يبقي تشتريلي اللى عاوزاه”
خرجنا من المحل حاملين للعبة التي لم استعملها كثيرا. كنت قد بدأت مغادرة عالم الألعاب لعالم القراءة. لماذا طلبت الدمية اذا؟ لا أعرف ربما لأن الإشارات العالقة على طرف ألسنتنا يوجعها الوقوف هناك بلا عبارة. الإيماءات ونظراتنا الصارخة تثقل ضمائرنا بحثا عن صياغة لغوية تنقذها من العدمية التي نفرضها عليها بصمتنا وانتظارنا أن نُفهم وتُفهم احتياجاتنا دون كلام. لم أطلب مرة أخري لم أطلب لعبة. طلبت أشياء أخري. لكن بقيت الدمى التي كنت أشاهدها في الفاترينة السحرية تناديني مثل نداهة لا تيأس. صرت ثلاثينية، ثلاثينية عزباء في بلاد تتزوج فيها الفتيات من سن التاسعة. من هن في مثل عمري لديهم أولاد في المدارس الثانوية. صرت حاملة للماجستير. قرأت مئات الكتب وملايين الحروف وكتبت وكتبت وكتبت. وعلى وشك الحصول على الدكتوراه. ومازالت الدمي التي كنت أمر عليها في الفاترينة السحرية تناديني. اشترت لي أمي “دبدوبا” عندما عبرت لها وانا طالبة جامعية عن امنيتي ورغبتي. عدت من الجامعة وجدت الدبدوب على سريري. وصار صديقي، وأعقبته “بأرنب” ازرق اللون زين قمة سريري. لكن مازالت الدمي تنادي. تتعلق بها عيوني، و كلما مررت على مكان به دُمى تحدثني نفسي أن ابتاع لنفسي ما حٌرمت منه وأنا طفلة صغيرة. وتهمس النداهة في أذني “لم لا؟”. أتجاهل نداهة الألعاب والدمى وأسير في طريقي حاملة الاكياس التي املأها بمتطلبات منزلى الذي صرت مسئولة عن شراء حاجياته، ومسئولة عن شراء حاجياتي, ومسئولة عن حياتي وحياة القاطنين معي.
أوهن الكبر أهلى. وصرت أنا من أتجول في الأسواق، وأنا التي ألبي المتطلبات، وأنا التي تتعلق عيناي بالدمي كلما وجدتها تطل من فترينة محل كلما رحت أو غدوت وأنا التي أتجاهل رغباتي أو اتناساها أو اؤجلها. لكن لو لم ألبي لنفسي احتياجاتي من عساه يفعل؟ لا أحد. فأنا ليس لي سواي.
اليوم انتصرت النداهة اخيرا واشتريت دمية. النداهة التي لم تيأس على مر السنين، نداهة الدُّمي.