هل ما زلنا نملك شيئًا نخفيه؟ الخصوصية في زمن الشفافية القسرية

هل ما زلنا نملك شيئًا نخفيه؟ الخصوصية في زمن الشفافية القسرية

هل ما زلنا نملك شيئًا نخفيه؟ الخصوصية في زمن الشفافية القسرية

 

بقلم : هاني سليم

 

“إذا لم يكن لديك ما تخفيه، فلن تخشى شيئًا.”

جملة تبدو منطقية على السطح، لكنها تخفي خلفها أعمق تهديد لحرية الإنسان الحديث. فما الذي يعنيه أن تُسلَب منك القدرة على الإخفاء؟ هل الشفافية أصبحت واجبًا أخلاقيًا؟ وهل ما زلنا، فعلًا، نملك شيئًا نخفيه؟

في العصر الرقمي، لم تعد الخصوصية خيارًا، بل أصبحت امتيازًا. ومع كل نقرة، وكل إعجاب، وكل صورة نشاركها، نحن لا نُفصح فقط عن معلوماتنا، بل نعيد رسم حدود “الذات” كما كانت تُعرَف تقليديًا.

الخصوصية.. فكرة قديمة تنهار

الخصوصية ليست مفهومًا حديثًا. لطالما كانت غرفة النوم، اليوميات، وحتى الصمت، هي مساحات تحمي الإنسان من أعين الآخرين. لكن ما الذي تغيّر؟
الجواب: كل شيء.

منذ دخول الإنترنت إلى تفاصيل حياتنا، وتحوّله من أداة إلى بيئة نعيش داخلها، أصبحت حياتنا مكشوفة بشكل غير مسبوق. لم تعد الخصوصية مسألة تتعلق بـ”ما نختار مشاركته”، بل بـ”ما يتم جمعه عنّا دون أن نعلم”.

فالهاتف الذكي، على سبيل المثال، يعرف أماكننا، عادات نومنا، نوعية الموسيقى التي نفضلها، بل وحتى حالتنا النفسية استنادًا إلى سرعة نقرنا على الشاشة. هل يبدو ذلك خيالًا علميًا؟ ربما. لكنه واقع موثق بأرقام وخوارزميات.

نحن من كشفنا أنفسنا طوعًا

المفارقة العجيبة أن معظم الناس تخلّوا عن خصوصيتهم دون مقاومة. لا أحد أجبرنا على نشر صور أطفالنا، أو الإشارة إلى أماكن وجودنا، أو مشاركة لحظاتنا الأكثر حميمية مع غرباء. لقد قمنا بذلك بكل حب، وربما بحماس.

نُعطي التطبيقات “صلاحية الوصول إلى الكاميرا” دون أن نقرأ الشروط. نضغط “موافق” على سياسات الخصوصية الطويلة دون أن نعرف أنها تسمح باستخدام بياناتنا في بناء بروفايلات تجارية وشخصية معقدة.

لماذا؟ لأننا نعيش في زمن يقيس وجودك بمدى ظهورك. من لا ينشر، لا يُرى. ومن لا يُرى، لا يُحسب. وهكذا أصبح “الظهور الدائم” شرطًا للانتماء الرقمي.

البيانات هي النفط الجديد… ونحن الآبار

الشركات الكبرى لا تبيع فقط منتجات، بل تبيعنا نحن. بياناتنا هي العملة الجديدة، والأكثر ربحًا.
حين تعرف شركة كم دقيقة تقضيها في تصفح منتج معين، أو متى تشعر بالملل، أو ما الكلمات التي تجذبك في العناوين… يمكنها توجيهك، التأثير على قراراتك، بل وحتى تغيير مزاجك.

هذا ليس خيالًا. في دراسة شهيرة، أثبت فيسبوك أنه يستطيع تعديل الحالة النفسية للمستخدمين عبر تعديل طفيف في ترتيب المنشورات. ليس هذا تلاعبًا عاديًا، بل تحكم ناعم في مشاعرنا، دون علمنا.

هل يمكن استعادة الحق في الغموض؟

في هذا المشهد المخيف، هل هناك مكان لمن يريد أن يختبئ قليلًا؟ أن يحتفظ بجزء من ذاته في الظل؟

الإجابة معقدة. تقنيًا، نعم. هناك أدوات لحماية الخصوصية: VPN، محركات بحث لا تتعقبك، متصفحات آمنة، أنظمة تشفير.
لكن السؤال الأعمق: هل نريد فعلًا أن نختبئ؟
لقد أدمنّا الإعجاب، التفاعل، والظهور. الخصوصية ليست فقط مهددة خارجيًا، بل داخلنا أيضًا، لأننا أصبحنا نرغب في مشاركة كل شيء، حتى ما لا معنى له.

في النهاية… ما الذي ما زال لنا وحدنا؟

ربما لم نعد نملك أسرارًا، أو مذكرات ورقية مخبأة تحت الوسادة.
لكننا نملك، على الأقل، الحق في أن نطرح هذا السؤال:
من يراقبنا؟ ولماذا؟ ومتى نقول: يكفي؟

أن نُخفي بعض جوانبنا، أن نحتفظ بلحظات لأنفسنا فقط، ليس ضعفًا أو خوفًا، بل فعل مقاومة في عصر تُحاصرنا فيه الكاميرات من الخارج، والخوارزميات من الداخل.

وربما، فقط ربما، الخصوصية ليست أن تُخفي شيئًا، بل أن تُقرّر ما تريد أن تظهره… ومتى.

المزيد:أحمد سليم يستعد لطرح أحدث أغانيه وتصوير عالمي في المجر بتوقيع بتول عرفه

قد يعجبك ايضآ
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.