” وأشتعل الرأس شيبًا” بقلم / أحمد عز

صباح يوم الثلاثاء :

“ذلك الصباح الذي ترسخ ذكره
في الأذهان بأنه نذير شؤم”
لا يدري ما ذنبه في هذا الإثم ؟
ربما لأنه يتوسط الأسبوع ؟
وربما من باب الاعتراض كعادتنا؟
وربما جعلناه رمزًا للآلام فيستحق الرجم أسبوعيًا !!
يومٌ تتعامد فيه آشعة الشمس على الجانب المظلم بداخلنا، فيكشف عن كم الهشاشة النفسيه ومشاعرنا الكامنة وذكرياتنا المكبوتة من وراء حجاب – إشارة مرور :  صباح الخير يا سمسم  صباح الخير يا أستذة.. إلى إيه؟أن يثبت العكس طبعًا.. صباحي المعتاد مع صديقي صاحب المقهى الذى أعتز به ويكن لي كل تقدير واحترام ومحبة”صوتًا عاليًا” لا تقلق هذا هو صوت محرك عالمي الخاص “محرك سيارتي” يعلن بداية انطلاقي .. .. يعلن بداية “لحظات الخلوة ” لحظات أتصفح فيها ذاتى وأمارس فيها جوهر اليوجا “التأمل” .. لحظات أسترق فيها النظرات إلى أحداثي المكترثة و المتسارعة في الأيام السابقة.. أحداث مرت بين عشيه وضحاها ، تُدهس يوميًا تحت عجلات قطار التعب والشقاء .. لا أتذكر مع أولى تأملاتي سوى  أننى استيقظت بعد غفوة من كثره الإجهاد كي أبدأ يومًا جديدًا .. أكاد أجزم أن كلانا يسترق لحظات تأملية في  وسيلة تنقله اليومية .. كلٌ في عالم يسبحون .. توهج اللهيب المشتعل … توقفت السيارات !! أمممم إنها الإشارة الحمراء وجهي ينعكس على مرآة السيارة التي بجوارى .. كم أنت جميل يا فتى.. مبتسمًا مداعبًا نفسي!  وجهي لا يحرك ساكنًا ؟؟!  ابتسمت ثانية .. مازال صامتًا!! مازال شاحب اللون .. جامد الملامح .. تعجبت بشدة !! انتابني الخوف.. اصطدمت شفتاي ببعضهما .. .. التقطت أنفاسي سريعًا .. نظرت نظرةً خاطفةً لقائد السيارة.. ما هذا الهراء..أنا قائدها .. كيف هذا ؟!

أجلس في سيارتين في أن واحد يا إلهى.. أصبت بالهذيان .. أشعر بدوار .. ربما أشاهد فيلمًا  كوميديًا أو ألهو في بيت الرعب  لربما ضللت الطريق؟! 

أتمعن ثانية لم يتغير شيء !!

هل أنا في عالم موازي .. هل أنا أحلم ؟؟ .. نزلت من سيارتى مهرولًا كالمجنون أتصفح كل السيارات لأجدني هنا وهناك  هذا شكلي صحيح .. لكنها ليست ملامحي .. مالها هزيلة كالوردة التي أهملها ساقيها ؟

ما هذا الوجه الخشبي …ما هذا التصدع الذى يقبع تحت جفوني هذا ليس أنا .. لست أنتم.. أنتم أنا .. ماذا يجرى ؟

هرولت إلى بيتي .. لأدفن وجهي في ثنايا موطني لعله يستعيد بريقه ارتبك المشهد وازداد التساؤل.. لربما هذا أثر الإرهاق المتواصل.. لربما ملامح الأيام الماضية.. لربما السنين العجاف لا أدري، أحضرت منظف الإستحمام وماكينة الحلاقة في عجالة وكليهما يتساقط مني جراء الارتباك .. يصاحبها قطرات دموعي التي تزحف ببطء أسفل جفوني .. خصلات شعري  يتخللها البياض المتضافر..كيف؟ الأمر لم يستغرق إلا نصف ساعة منذ نزولي صباح اليوم حتى الآن.. صباح اليوم.. أي يوم ؟! فكل يوم هو ذات اليوم لا أتذكر سوى أنى أهرول..أهرول..أهرول ولولا أن رأيت وجهى منعكسًا في المرآة لما تذكرت ملامحي فلقد نسيتها وأنا أسعى في صباح متكرر لعله نفس الصباح ولكنه ليس نفس القطار  والملامح .. فقد تشابهت  الأحداث واختلف مقياس العمر لقد استرق اللص ريعان شبابي في يوميات مكررة دون استراحة محارب .. حلم سخيف أتمنى الاستيقاظ.. وقع من يدي اليمنى منظف الاستحمام ، لكن لا بأس سألتقطه بيدي اليسرى  فوجدتها ماكينة الحلاقة.. ماكينة الحلاقة ؟

على ما يبدو الزمن يقوم بترتيب الأولولية.. أمسكت ماكينة الحلاقة لأداري سوء ملامح المشيب ..ثلاثون دقيقة فقط تغير فيها كل شيء .. هذا أمر عجيب لا يصدقه عقل – لحظات صمت .. صوت الماكينة يزداد تدريجيًا دون أن تتساقط خصلاتي .. لحظات صمت أخرى علقت الماكينة.. رفضت القيام بمهامها.. كيف وتلك المرة الأولى للاستخدام !!

ربما لأن شفراتها هزيلة والمهمة تفوق قدراتها .. وربما استسلمت حتى تقر بحتمية الأمر..لقد  كانت كالمعدة الثقيلة التي تصطدم بالحائط الخرساني دون أن يتهاوى.. لقد رفعت الماكينة الراية البيضاء المنعكسة أثر خصلات شعرى على سلاحها

فقد كان قادرًا يومًا ما على أن يقطع ألف شعرة بمجرد النظر إليها من أثر هيبتها.. حدثت المعجزة.. تدخل القدر .. اقتلعت الماكينة أول خصلة من جذورها في مشهد تمثيلي بطئ.. تتهاوى الخصلة البيضاء متأرجحة في الهواء يمينًا ويسارًا متجهةً لأسفل مثل ريشة العصفور، يتزامن في نفس اللحظة صوت انكسار معدني فالتفتت لمصدر الصوت لأجدها الشفرة المقاتلة التي ضحت بنفسها لأداء مهمتها وظلت تتقلب كالعملة المعدنية في الهواء .. ظلت خصلاتي تتهاوى حتى ارتطمت بالأرض وسمع لضجيجها مشارق القلب ومغاربها ثم وقعت بجانبها المقاتل الشرس بعد أن أدى مهمته على أكمل وجه، تنفست الصعداء بهدوء .. رافعًا رأسي وأنا أضغط بجفونى على عيناي من أثر الصدمة .. ثم تفتحت عيناي على المرآة لأجد بدل خصلة شعري البيضاء ألف خصلة لقد وصلتنى الرسالة.. إنه لأمر جلل لن أكرره ثانية .. فقد بات الأمر محتومًا .. فلقد اشتعل الرأس شيبًا .. فلقد ازداد العمر خيبةً .. لقد مر قطار العمر .. لقد انتقلت لرتبة العم، قبضت بأناملي على حافة الحوض وأجبر جفناي على الإغلاق وانحنت رأسي لأسفل .. وأسدل الستار.. بين الضحية والاتهام ؟ في ذات القطار جيلًا كاملًا استرق عمره عنوة .. اُجبروا على حمل السيوف منذ نعومة أظفارهم ليقاتلوا محاولين “الخروج عن النص” ليصنعوا هوية فريدة فى عالم متشابه ، فيجدوا لحظة الوصول هي ذاتها لحظة النهاية .. فمن عزم منهم على القتال..نسي أن يحيا.. نسي أن يستمتع بريعان شبابه .. وربما كان قهرًا.. الأغلب يحاول النجاة  يحاولون إعادة ترتيب المشهد المجتمعي وقوالبه الأيدولوجية المقدسة الميتة.. لكن كل انتصار تحققه تقايض مكانه بعمرك، بوقتك .. وربما بأعز ما تملك (فلكل شيء تكتسبه ضريبة)  كل انتصار ضريبته إما توصم بالجنون أو التشتت والتوهان بينما أنت في الحقيقة تجاهد

و للأسف الكل حكيم يجيد التنظير إلى أن يقع في الفخ  الكل ملحد إلى أن تأتي لحظة الموت.. ثم تُفاجأ بسيل من الحكم والعبارات والآيات التي تتبع الهوى تلتف على عنقك تعتصرك كالحية.. (هاتلنا حته عيل نفرح بيه ) .. (العيل يجى برزقه) .. (نحن نرزقكم وإياهم ) (ألا تعلم أنه لن يأتي بكلمة الحق والعلم والتربية وعيش كريم كسيدنا عيسى) ؟؟

بل أنت من تصنعها .. أقدر تماما أنك تتمنى سعادتى لكن أنت تتمنى أن (تضع فيلك بداخل زجاجتي) ولا تخبرنى كيف ؟! تريدون تحقيق السعادة بمقاييس غير مطابقة للواقع على حساب فاتورتي.. فلتحلم
وأنا سأدفع لا بأس .. ألا تدرى أن حياتك وعائلتك أشبه بخطة عمل ناجحة .. لأنهم شركاؤك في الحياة وليس بعبيدك .. لقد أخبرنا المولى “هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ” فلتحسن معايير الاختيار والعيش الكريم. فاظفر بذات الدين ولا تنسى أن تظفر بذات الخلق والتوافق الفكري والوجداني والجمال والنسب يقول المولى عز وجل  في كتابه الكريم ” الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ ” أي أن الله لم يخلق الإنسان هباءً بل بتصميم محكم على مراحل حتى يظهر في أحسن صورة .. صاحب الشأن هو من يصمم نموذجه الناجح.. فلندعوا دعاء سيدنا زكريا ” رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ ” فالمؤمن القوى خير عند الله من المؤمن الضعيف (فأحسن صنعه علمًا وخلقًا لا بكثرتهم فيكونوا كغثاء السيل) فنحن لا يحكمنا قطار البلوغ فقط لتعم الفرحة بين أفراد القطيع بل يحكمنا ضوابط إلهية ومجتمعية، أعلم تمامًا أن الجميع يخوض حروبًا نفسية لا يعلم عنها أحد “فلقد ظهر المشيب على ملامح الكثيرين من أثر السباق الصامت بين قطار العمر وقطار الهم والسعي و المسؤولية” فلتترك جيلًا يعافر حتى يتسلق قمة هرم “ماسلو النفسى” فيشبع احتياجاته الأساسية أولًا ثم تحقيق حاجاته الاجتماعية ليصعد للسماء السابعة وهى تحقيق الذات، فهو لن يرضى بحد أدنى من المعيشة الكريمة كما رضي كثيرون.. فهذا
جيل منهم من يؤمن بأنهم لم يخلقوا لإشباع غرائزهم فقط  “فلتعطنى بيتًا أولًا يحمني من حر الصيف وبرد الشتاء ثم اطلب منى أن اعبد الله” لست في حاجة أن تعلمني كيف اصطاد السمكة .. فلم تعد ذات السمكة ولا ذات السنارة .. لقد طال العجز المجتمعي كثير من جيلنا حتى عم الجهل و الاحباط و هما أصل كل الشرور – لقد وجد الكثيرون أنفسهم في العراء  ضحية في عرض البحر يسبح ضد التيار في رحله البحث عن الذات ليصبح ذا قيمة لا ليحقق حد أدنى من المعيشة..فجهودكم نثني عليها شكرًا فهى قدر استطاعتكم وطموحكم لكنها ليست قادرة على أن تقطرنا لبر الأمان .. فدعنا نفوز باللذات ككل مغامر، دعنا نعمل على تغيير الواقع بدلًا من أن نتقبله على علاته ونتكيف معهم كما فعل كثيرون منكم ..فقديمًا قال بيل جيتس ” ليس ذنبك أن تولد فقيرًا ولكن ذنبك أن تموت فقيرًا” دعنا نخاطر بتكلفه يمكن تحملها فلنحاول من أجل احتمالين.. إما (المكسب أو الخسارة) وليس من أجل احتمال محتوم (الخسارة)
فإذا كتب عليك الاختيار بين هدفين إما أن تصبح ذا قيمة مجتمعية تصنع المجد أو التكاثر فلتختار الأولى فنيوتن وهو لم يتزوج خلد في التاريخ الإنساني بقيمته لا بتكاثره (فإذا كنت تجيد التكاثر فقط فلتجيده في صمت .. ولتجعلنى أجيد فن النجاح والخروج عن المألوف)  فالتكاثر ليست صفة مميزة للجنس البشرى .. فهي في الأصل صفة حيوانية يشبعها الجميع أما صفة تكريم الذات تحتاج إلى ما هو أرقى، فنحن نحاول أن نعيد الكرة لملعبنا لتصحيح المسار من رصيد عمرنا لنلحق ما ضاع من رصيد ريعاننا بما لا يجدى نفعًا في سوق العمل والحياة الكريمة .. حتى لا نقع بين مطرقة الاستعباد وسندان حفنة من الأموال التي لا تكفي إلا لتغطية نفقات الانتقال من بيتك للعمل ويزداد كرمًا إذا أطعمك فطورك.. دعنا نختار لأنفسنا ثوب يليق بنا الذى لا يحتاج لتهذيب في أي اتجاه سواء كان أشخاص أو وظائف أو حياة كاملة.. فلتترك الفتاة تختار طريقها ومستقبلها وطموحها بما يجعلها ذات قيمة بما لا يخل بواجبتها الأسريه مستقبلًا فهى رفعة لأبنائها ولك و للأمة جميعًا  دعها تبحث عن شريك حياتها بما يوزاى قيمتها فهى رأس مال ذاتها لا أن تبحث عن عائل لها تحت بند الستر فتقضي على باقي حياتها في محكمة الأسرة
فلنترك للشباب أن ينطلقوا ويحاولوا إثبات ذاتهم ليصبحوا ذوي قيمٍ تنفع مجتمعهم و عائلاتهم لا تقضي على حياتهم بسبب أفكارك المتوارثة فلتلحق قطار العمر قبل أن يمر .. فقد يدهسنى القطار بسبب نصائحك اتركه يسعى و ادعُ له أن يلحق القطار المناسب في القوت المناسب ..فلتقل خيرًا أو لتصمت.. صحيح من نعم الله  الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لكن لا تنسى أيضًا قوله تعالى.. “إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ ” فلقد اشتعل الرأس شيبًا جراء السباق بين قطار العمر وقطار الهم.

قد يعجبك ايضآ
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.