وتر كمان بقلم صفا غنيم
كان الحائط يستغيث من المطر وفنجان قهوتها الثالث يستغيث بها أن تتناوله ولا تتركه يبرد كسابقيه.. وقبل هؤلاء جميعا كان هناك صوت آتي من بين أضلعها يستغيثها لأن تتركه جانبا دون النبش فيه، وبعد دقائق من شرودها خارج نافذتها حيث حبات المطر المتساقطة، أغمضت عينيها لتخرج منها رغم أنفها تنهيدة بها الكثير من الكلام لتمد أناملها الطويله البيضاء بشىء من الملل إلى فنجان قهوتها الذى ظل يتسارع مع الوقت كى يحتفظ بحرارته حتى تتناوله هى وقد أمسكت به لتضع أصبعها بداخله لتتذوقه كعادتها الطفوليه التى لا تريد أن تبرحها لتقف فجأة تاركة فنجان قهوتها على المنضدة التى تناثرت عليها روايات قديمه وأوراق بيضاء وصورة لها وهى ما تزال طفله بضفائر مع أحد رفاق دربها لترتدى معطفها الثقيل واضعة على شعرها شال من الصوف وما أن وصلت لباب غرفتها حتى أستدارت ورجعت ثانية لتقف أمام خزانة ملابسها وتخرج صندوق صغير تفتحه وتتناول منه وتر كمان مقطوع تربطه حول معصم يدها اليمنى وتمضى خارج البيت حيث الطريق والمطر، تقابلها الأمطار وتغرق أياها وكأنها تغسلها من شىء قد علق بها دون أن تدرى لتحتضن نفسها بكلتا يديها مبتسمة رغم ما أحست به من برودة صارت فى أوصالها، وقد أخذت فى الغناء كمن يبحث عن ونس له فى هذا الجو الممطر الرائع. ليشاركها فجأة صوت الرعد ونور البرق ما تفعله، فتصطدم بأحد الماره المسارعين الخطى هربا من المطر ليتوقفا معا وينظر كلا منهما للآخر ليقدم أعتذاره، وما أن ألتقت الأعين حتى توقف الأثنين عن الكلام وظلا مشدوهين كمن يسترجع صورة باهته من ذاكرته قد مرت عليها سنوات طوال محاولين أن يطبع كلاهما صورة الآخر على ماء عينيه وهنا يشتد المطر فى الهطول، كمن يعزف قطعه موسيقيه آتية من زمن بعيد حتى أرتعشت ملامحها من البرد وكثرة المشاعر المتداخله، لترتسم على شفتيه إبتسامة بعمق خمسة عشر عاماً قد مضت ولم يرى أحدهم الآخر فيمد يده برعشة فرح إلى ملامحها يمسحها مما علق بها من مطر ويمسح عنها غبار الزمن محاولاً أن يحتضن كل ملمح من ملامحها وكل تقسيمه بوجهها كمن يعتذر لهم عن طول الغياب. أمسكت بيده وأدنتها من أنفها لتستنشقها بشده كمن يبحث عن شىء يعيد له أنفاس الحياه، وبدون أرادة منه أخذها بين ذراعيه لتترك نفسها كطفلة تنام على كتفيه ويحتضن صوت بكائها ؛ ودموعها الساخنه التى أحس أنها تنزل من عينيه هو ، وقد شعر أنها تتكسر على صدره وبين ذراعيه، ليضمها أكثر وأكثر محاولاً أن يخفيها بين ضلوعه داخل طيات نفسه المشتاقه، ويمضي الوقت وكلا منهما منصهر داخل الآخر كمن فقد ذاكرة الزمن، حتى أنتبها أنهما لايزالا واقفين على قارعة الطريق ؛ ليخرجها برفق من بين ذراعية ممسك بيدها ماضيين فى طريقهما وقد أمسك بأصابعها
: لتتوه منه المعانى،وتذوب على شفتيه الكلمات قائلا لها: هل لى أن أخبرك سرا؟ولم يعطيها الفرصة لتجيبه بل أردف يكمل كلامه قائلا كمن يحدث نفسه،منذ أن فارقتك وكمانى مقطوع الوتر ،لم أحاول ولو مرة واحدة أن أصلحه أو أبدله بغيره ،أتعلمين لماذا؟
لقد كان دوما بداخلى احساس أنك ستعودين إلى ذات يوم ،سيردك الله لقلبى وعينى فقد أستودعتك عنده بين ودائعه كأمانة لى عنده
عز وجل وأعلم أن ودائع الله لا تضيع،كنت حينما أشعر بحاجتى إليك وسط هذا العالم الكئيب أستند إلى ذراعيك أحتمى بهم عندما تخوننى قوتى وأكاد أسقط
وكلما أشتقت إليك كنت أمسك بالكمان أعزف عليه وهو مقطوع الوتر كان يعزف نغمات تشبه الأنين كمن يريد أن يخبرنى انه مقطوع الأصل مبتور الجذع وأن جزء منه غاءب ويستحلفنى أن أعيده اليه كل شىء حولى كان يخبرنى أنك ستعودين يوم إلى
ويصمت وتصمت هى معه كمن مكث فى حضرة جمال لا يريد أن يفسدها بالكلام، فقط يريد أن يترك أحساسه يستشعر ويتنفس كل شىء حوله
كل شىء حوله وفى هذه اللحظة يتوقف المطر عن الهطول كمن يعقد معهم معاهده سلام إحتراما لتلك المشاعر الصامته وقدسية الموقف حتى قطعت هي هذا الصمت قائلة له : لقد مضى الوقت وعليا أن أعود أدراجى قبل أن يهاجمنى المطر ثانية ؛ وهمت بالمضى حتى أمسك بيدها وأطبق عليها، كأم تمسك بوليدها خشية أن يضيع منها فى زحام الطريق وقد بادرها القول قائلاً : متى سأراك ثانية ؟ نظرت إليه مجيبة إياه: أتركها للصدفة ولأقدار الحياة فكما ألتقينا صدفة سنلتقى ثانية صدفة؛
يجيبها قائلا : ولماذا نترك حياتنا ثانية للصدفة تلعب بنا كيف تشاء؟
لتهمس له: أعطنى بعض الوقت فأنا متعبة حد الموت؛ أعطنى فرصة أعود إليك كما تركتنى ؛ فلم أعد طفلتك المدللة التى كنت تمشط لها شعرها ؛ وتهديها حبات التوت وعروسة السكر. نظر إليها نظرة طويلة أحست فيها أنه يود أن يخترق صدرها ليصل إلى قلبها لعله يرى ويعلم ما بداخله وما حدث لها، لتخرج منه تنهيده يقول لها من خلالها سأنتظرك وأتحملك حتى تعودين لي ثانية طفلتى المدللة ؛ وقد أعقب تلك التنهيده الملأة بالكلمات
بسؤال قائلا لها: هل لى برقم هاتفك؟ وبدون مقاومة منها أحست أن كل شىء بها يخون قوتها وبإستسلام متعب قالت له إحدى عشر رقما سريعاً وتركته ومضت فى طريقها كمن يفر من شىء يخيفه. ليظل واقفاً هو فى مكانه يتبعها ببصره وهو يردد الإحدى عشر رقماً كمن يردد الشهادتين قائلاً لها وقد أختفت عن بصره: تحفظك السلامة أينما حللتى يا قطعة من الروح
عادت إلى بيتها كالمخدره من شىء حلو قد تناولته، لتحتضن نفسها وتلقى بشالها الصوفى ومعطفها على طول يديها وتظل تدور وترقص فى مكانها. وجدتها قابعة فى ركن من أركان الغرفة وقد أمسكت بيديها خيط من صوف تغزل به و قطتها البيضاء اللون تحت قدميها تتثائب فى تكاسل أمام نيران الحطب المشتعلة بالمدفأة
وقد ظلت تراقبها من تحت نظارتها الطبية لتعلوا تجاعيد وجهها أبتسامة صافيه حتى بادرتها القول قائلة لها: قطتى الحلوة ما كل هذا الفرح؟ قصي علي ما حدث دون كذب. لتتوقف هى فجأة عن الرقص وقد علت وجنتيها حمرة خفيفه لتهتف فى جدتها قائلة لها: جدتى أنت هنا منذ متى؟ الجدة: منذ أن دلفت من باب البيت، لتجرى نحوها تحتضنها بشدة كمن يأخذ جزء من أحد كي يمتلأ به قائلة لها: لقد قابلته يا جدتى بعد خمسة عشر عاماً. لتفتح الجدة فمها مندهشة معقبة على كلامها: قابلتيه بعد كل الذى حدث، ألم يكن بمقدور الزمن أن يعيدكم إلى بعضكم منذ خمس سنوات فقد. لتبهت هى فجأة ويضيع البريق الذى كان يملأ عينيها كمن تذكر شىء يخيفه وصمتت تماما لتدرك الجدة أنها قد كسرت شىء بها وهى لا تدري عله إحساسها بالفرحة، ولعله إحساسها بعودتها ثانية للحياه، تحاول أن تتدارك ما قالته هامسة لها: لا تتركيه ثانية يضيع منك تمسكى به بكل ما أوتيتي من قوه، وإنسى فشلك السابق.
لتجيبها كالتائهة : وهل سيتقبل أننى تزوجت بغيره؟ الجده : لم يكن بيدك يا بنيتى ما حدث، لو لم تفرق بينكما عداوة اهليكم وحسابات المكسب والخساره لكنتى معه منذ زمن، أخبريه بكل ما حدث وأتركي له حرية الإختيار. هى: لا ياجدتى هو حتما يستحق إنسانه أخرى غيرى، فمن تركها فى الماضى لم تعد موجوده لقد شوهها الزمن.
الجدة: من يحب يابنيتي يرى من يحب أجمل مخلوقات الله.
هي: وهل أمتلك الشجاعة كى أخبره أننى تزوجت بمن قتل في كل شىء جميل وأدخلنى مصحه نفسيه كالمجانين؟ لا لن أخبره ولن أراه ثانية هو يستحق من هى بكر فى مشاعرها وأنا مشاعرى صارت مشنوقه بحبل زوج مشوه نفسياً وأهل ظالمين. لتترك جدتها وتذهب الى النافذه ناظرة بعيد الى ما وراء السحاب كمن يرسل سلام لغائب أخذته الأيام، ليخرجها من شرودها صوت رساله على هاتفها لتمضى نحو الهاتف ببطء شديد ، فكم مضى وقت طويل ولم يتذكرها أحد برساله لتمد أصابعها الرشيقة وتفتح الهاتف لتجده رقم بدون إسم وإذ برساله منه تقول: أشكرك يا طفلتى المدلله لقد أعدتي إلى من جديد الحياه خرجت رغماً عنها إبتسامه راضيه تربت كتفها المتعب من ضربات الزمن لتترك الهاتف جانباً وتذهب إلى سريرها وتخلد لنوم عميق لم تنعم به من زمن طويل
منذ ان إستسلمت للعقاقير وأدوية المهدىء فما عانته مع زوجها المتسلط الذى لا يترك لنفسه إحتمالية الخطأ فى أى شىء جعلها تحيا معه دون كلمة حب واحده أو لمسة عاشق يشعرها بالحياه، فقد كان يعتبر الحب هراء والمشاعر ضعف والرحمه كماليات إستيقظت فى الصباح على صوت رساله جديده على هاتفها لتسرع وتمسك بالهاتف علها تكون رسالة منه لتجد رقمه أمامها فتضحك عينها وتفتح الرسالة لتقرأ : أتسمحين لى أن أختطف اليوم طفلتي المدلله من جميع مشاغلها ونتناول طعام الإفطار معاً كونى جاهزه بعد نصف ساعة سأمر عليك وأصطحبك معي. وبدون تفكير قفزت من سريرها وأخذت حمام دافئ وإرتدت بنطال من الجينز الكحلى وقميص من الصوف الأحمر ولملمت شعرها إلى الخلف بشريط من الستان الأحمر الذى زاد وجهها براءة وجمال ولم يمضى وقت طويل حتى سمعت صوت سيارته يتوقف أمام منزلها لتهرول إليه كالصغار وتقابل جدتها فى طريقها لتلقى لها بقبله وهى تتابعها فرحة بها وأخذت تتمتم بدعوات لله أن يسعدها، وقد قفزت بجانبه فى السياره وإنطلقا لتناول طعام الإفطار معا ضحكوا وثرثروا، نست معه كل شىء وأى شىء إلا تلك الطفله التى عادت إليها بعودته، وهو سامح قسوة الحياه حينما ردتها إليه. ليعودا أدراجهم آخر اليوم وبجعبة كلاً منهما قطع من السكر قد سرقوها من كلماتهم ونظراتهم وهمساتهما. وما إن وصلت منزلها حتى ألقت بنفسها فى أحضان جدتها لتبادرها جدتها القول قائلة: هل أخبرتيه بما حدث بحياتك؟ صمتت تماماً وتركت حضن جدتها ناظرة إليها مجيبة إياها على تساؤلها: لم أمتلك الشجاعة كى أخبره، خائفة يا جدتي أن أفقده ثانية لتتركها وتمضى نحو غرفتها ومئات الكلمات تدق رأسها لتنام وهى جالسة مكانها ، وتستيقظ على صوت رسالة منه يقول فيها : كم إشتقت إلى روحى التى معك، هل لك أن تعيدها إلى صاحبها. لتنهمر دموعها ولأول مرة تكتب إليه رسالة تقول له فيها : لم أعد طفلتك المدللة، لقد شوهتنى الأيام، تزوجت وفشلت دخلت مصحة نفسيه، أستسلم جسدى للحقن المخدرة وعقاقير الاطباء، أنت تستحق من هى أفضل منى ؛، اسقطنى منك وإمضي فى طريقك. ويمضى الوقت ولا يصلها رد منه على رسالتها تلك لتحتضن نفسها وتنام وقد أيقنت أن كل شىء قد رحل ثانية. لتستيقظ صباحا على دقات متلاحقه على باب منزلها فتنهض متثاقلة وتفتح الباب لتجد أمامها باقة ورد كبيره جميعاً باللون الأحمر وقد وضع بداخلها رسالة قد كتب فيها : أيتها السارقه أعيدي إلى وتر كمانى المربوط بمعصمك، فمنذ أن قطع وكمانى لا يعزف بدونه، أعيدى الي ثانيا قلبى الرابض بين أضلعك، أعيدى إلى الحياة وطفلتى المدللة، اعيدى إلى الأم والأخت والصديقه أستحلفكى برأس كل من تحبين الا تتركينى ثانية وتذهبين، ورغماً عنها تخرج منها ضحكة مختلطه بدموع غزيره ليطل هو فجأة من خلف الباب بإتسامته الساحره وقد فتح ذراعيه لها لتجرى نحوه وتلقى بنفسها فى أحضانه ليضمها بشده لتشعر الكون فجأة اعيادا وأفراح وألوان قوس قزح ليستنشقا معا من جديد الحياه. وقد أمسك بمعصم يدها اليمنى ويحررها من وتر الكمان ليمسك بكمانه فى يده ويضعه أمامها قائلا لها: ضعى الوتر المقطوع ثانية مكانه لنعزف معاً لحناً جديداً من ألحان الحب والطهر والنقاء، فما بينى وبينك مشاعر أريد أن أغزلها عمرا كامل