سميحة أيوب… سيدة المسرح التي وقفت في وجه الزمن

في صباح الثالث من يونيو 2025، أُسدل الستار على فصل أخير في ملحمة من العطاء الفني المتواصل، برحيل الفنانة سميحة أيوب عن عمر ناهز 93 عامًا. سيدة المسرح العربي، كما لقبها النقاد، لم تكن مجرد فنانة، بل كانت مؤسسة قائمة بذاتها، مدرسة تنبض بالحياة، ومسرحًا يمشي على قدمين. حين نُنعى سميحة أيوب، فإننا لا نرثي شخصًا فحسب، بل نودّع زمنًا بكامله.

كتبت: ماريان مكاريوس 

الولادة في قلب القاهرة… وبدايات مغزولة من الشغف

ولدت سميحة في حي شبرا، أحد الأحياء العريقة التي احتضنت الفنون والطبقات الوسطى، في 8 مارس 1932. لم تكن الطفلة الصغيرة تعلم أن صوتها المرتعش في أول بروفات المدرسة الابتدائية سيكون ذات يوم له صدى في القاعة الكبرى للمسرح القومي، وأن ملامحها الشرقية الصادقة ستزيّن شاشات السينما والتلفزيون لعقود.

 

دخلت سميحة عالم الفن باكرًا، حيث ظهرت لأول مرة في فيلم “المتشردة” عام 1947، ولم تكن قد بلغت العشرين بعد تخرجت عام ١٩٥٣ من المعد العالي للتمثيل الذي درست و تدربت فيه علي يد استاذها زكي طليمات ثم بدأت نجوميتها في الظهور بادوار صغيرة في افلام شاطئ الغرام و ورد الغرام. ومنذ تلك اللحظة، بدأت رحلة بحث دؤوب عن المعنى، عن الفن الذي لا يُستسهل ولا يُستهلك، بل يُعاش ويُعاني ويُحترق من أجله.

 

المسرح… بيتها الأول والأخير

رغم حضورها اللافت في السينما والتلفزيون، ظل المسرح هو المعبد المقدس الذي أخلصت له سميحة أيوب طوال حياتها. قدمت ما يزيد عن 170 عرضًا مسرحيًا، تراوحت بين الكلاسيكيات العالمية والأعمال المعاصرة ذات البُعد السياسي والاجتماعي.

 

من بين أشهر أعمالها: “سكة السلامة” و”السبنسة” و”رابعة العدوية”، ثم “الوزير العاشق” الذي كرّس حضورها القوي على خشبة المسرح، بأسلوبها الذي يمزج بين التقمص النفسي والسيطرة الجسدية على الفضاء المسرحي. لم تكن تمثل فقط، بل كانت تعيش الشخصية بكل جوارحها، كأنها تستدعي الأرواح من وراء النص.

 

حتي أن السيدة أم كلثوم نفسها فضلت أن تؤدي سميحة أيوب دور رابعة العدوية في فيلم يحمل نفس الاسم، لما تملكه من قدرة على تمثيل القداسة والوجد الصوفي الذي قدمته سابقا علي المسرح، لا سيما وأن أم كلثوم قد شاركت بصوتها في الفيلم من خلال الأغنيات التي أصبحت لاحقًا من علامات الموسيقى الروحية في السينما المصرية. ذلك الترشيح لم يكن مجاملة، بل شهادة فنية من سيدة الغناء إلى سيدة المسرح.

 

مديرة مسرح… ورائدة ثقافية

لا تكفي الموهبة وحدها لصنع الأسطورة. كانت سميحة إدارية من الطراز الرفيع، فقد تولت إدارة المسرح الحديث ثم المسرح القومي، بين عامي 1972 و1989. خلال تلك الفترة، أعادت هيكلة الإنتاج المسرحي، وساندت المواهب الجديدة، ووقفت في وجه البيروقراطية بعناد فنانة تعرف قيمة ما تقدم.

 

حين نتأمل إنجازاتها الإدارية، ندرك أنها لم تكن مجرد “بطلة مسرحية” تظهر على الخشبة ثم تغيب، بل كانت عقلًا مدبّرًا للحركة المسرحية في مصر، تمدّها بالدم الجديد وتؤسس لاستمراريتها، وسط تحديات سياسية واقتصادية طاحنة حيث بلغ تاريخها المسرحي ما يقرب من ١٧٠ مسرحية.

 

في السينما والتلفزيون… حضور بلا تنازل

رغم أن المسرح كان هو العشق الأكبر، إلا أن سميحة لم تهجر السينما ولا الشاشة الصغيرة. ظهرت في أفلام مثل “ارض النفاق”، “فجر الإسلام” #سوق الحريم”، وكان لكل ظهور دلالة، ولكل أداء بصمة لا تُمحى.

أما التلفزيون، فشهد مسيرتها الطويلة في مسلسلات تناولت قضايا المجتمع والأسرة والتاريخ و من اهم مسلسلاتها “الضوء الشارد””محمد رسول الله” “أوان الورد” و غيرهم

أما عن الإذاعة فلها تاريخ طويل من الأداء و الحنجرة المتميزة و من أعمالها “سمارة” “أم كلثوم” و مسلسل عن الكاتبة سهير القلماوي بعنوان “فارسة الأدب العربي”

 

اما آخر ظهور لها في فيلم “ليلة العيد” عام 2024، الذي نال استحسان الجمهور والنقاد على حد سواء، وجسدت فيه دورًا يليق بخاتمة فنانة من طراز استثنائي.

اقرأ أيضاً: وداعا سيده المسرح العربي سميحه أيوب عن عمر ناهز الـ 93 عاما

لكن المفارقة الجميلة أن جمهور الألفينيات، من الشباب والصغار، تعرفوا إلى سميحة أيوب من خلال أعمالها الحديثة مثل فيلم “تيتا رهيبة” (2012)، حيث جسّدت الجدة القوية ذات الشخصية الكاريزمية، لتصبح “تيتا سميحة” أيقونة حنونة لدى الجيل الجديد. وهكذا أصبحت قنطرة وصل حقيقية بين جيل الرواد وجيل ما بعد الألفية، تؤكد أن الفن الحقيقي لا يهرم، بل يتجدّد بمن يمسك زمامه.

 

الجوائز… شهادات تقدير من الزمان

لم تكن الجوائز بالنسبة لسميحة أيوب هي المحفّز ولا الهدف، لكنها جاءت تقديرًا طبيعيًا لمسيرتها الثرية. حصلت على “جائزة الدولة التقديرية” ثم “جائزة النيل للفنون” عام 2015، وهي أرفع وسام ثقافي في مصر. كما كرّمتها دول عربية عدة في مهرجانات ومناسبات ثقافية. وقد أُطلق اسمها على القاعة الكبرى بالمسرح القومي، ليتحول اسمها إلى حجر أساس في ذاكرة المسرح المصري.

 

الزواج في حياة سيدة المسرح العربي

لم تكن حياة سميحة الشخصية بعيدة عن وهج الفن. تزوجت أولًا من الممثل محسن سرحان، ثم من الفنان محمود مرسي، وهو الزواج الذي أثمر عن ابنها الوحيد. وأخيرًا، ارتبطت بالكاتب المسرحي سعد الدين وهبة، الذي شكّل معها ثنائيًا ثقافيًا مرموقًا، امتزج فيه الفكر بالتمثيل، والسياسة بالمسرح.

 

هذه العلاقات الثلاث، رغم ما فيها من تقاطعات واختلافات، عبّرت عن شخصية امرأة تعشق الفن في كل أشكاله، وتبحث عن شريك يشاركها هذا العشق، حتى وإن احترق قلبها في الطريق.

 

مدرسة في الأداء… وصوت من الماضي

حين كانت تقف على الخشبة، كانت تمثل مدرسة قائمة بذاتها. أداؤها الصوتي، نظراتها، تنقلاتها فوق الخشبة، حتى الصمت في أدائها، كان يحمل دلالة. تعلم منها أجيال من الممثلين والممثلات، وظلت حتى سنواتها الأخيرة تحاضر وتدرب وتقدم خبرتها للجميع، بلا كبرياء ولا وصاية.

 

سميحة أيوب لم تكن فنانة فحسب، بل كانت “طاقة فنية” تمشي على الأرض، تحتضن المسرح كأنه ابنها، وتمنحه من عمرها وقلبها وعقلها. هي المرأة التي وقفت في وجه الزمن، وقالت له: لن تمرّ إلا وأنا أترك أثري.

 

رحلت سميحة، لكن صوتها ما زال يتردّد في كواليس المسرح، وما زالت صورتها محفورة في قلوبنا، وما زال الفن مدينًا لها الي الأبد.

قد يعجبك ايضآ
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.