وفاة ديان كيتون بطلة فيلم العراب التي غيرت ملامح المرأة بالسينما الأمريكية
رحلت عن عالمنا اليوم ديان كيتون عن عمر ٧٩ عاما .
لم تكن ديان كيتون مجرد وجه جميل عبر شاشة السينما الأمريكية، بل كانت علامة بارزة في تاريخ الفن السابع .
كتبت/ ماريان مكاريوس
وبالأخص حين جسدت شخصية كي آدامز كورليوني في فيلم The Godfather، تلك السيدة التي وُضعت في قلب واحدة من أعظم الملاحم السينمائية عن الجريمة والعائلة والسلطة.
بظهورها في “العراب”، لم تؤدِّ كيتون دورًا ثانويًا في ظل الرجال، بل منحت المرأة حضورًا جديدًا في عالمٍ كان يسيطر عليه الأب والابن والدم، لتتحول إلى ضميرٍ هادئ في وسط صخب الجريمة، وصوتٍ عاقلٍ يحاول النجاة من ظلال العائلة الكورليونية.
ظهرت كي في البداية كرمز للبراءة الأمريكية الكلاسيكية، فتاة عادية من الطبقة المتوسطة، تقع في حب مايكل كورليوني (آل باتشينو)، دون أن تدرك أن قلبه يخفي قدراً من الغموض بقدر ما يخفي من الحب. لم تكن كي تنتمي لعالم الجريمة ولا تعرف دهاليز السلطة، لكنها كانت تمثل الجانب الإنساني الذي يُذكّر مايكل دائمًا بما فقده من نقاء. ومع تطور الأحداث، تتحول كي من امرأة تحب رجلاً عادياً إلى زوجةٍ لزعيم مافيا، محاطة بالخوف والندم والخذلان.
أنوثة ورغبة وشك وحنان
وقد استطاعت ديان كيتون أن تقدم هذا التحول بدرجة من الصدق والاتزان جعلت المشاهد يعيش تناقضات الشخصية بين الحنان والشك، بين الأنوثة والإدانة، وبين الرغبة في الفهم والرغبة في الهرب.
في عالم The Godfather، حيث تدور القوة حول الرجال، والعائلة تُدار كإمبراطوريةٍ تحكمها الطاعة والانتقام، كانت ديان كيتون تمثل استثناءً. لم تكن كي آدامز مجرد ديكورٍ عاطفي، بل كانت مرآةً تكشف الجانب الإنساني من القسوة.
حين واجهت مايكل في الجزء الثاني من السلسلة، وقالت له بصوتٍ مرتجف: “لقد أجهضت الطفل، لم أكن أريد أن يولد طفل آخر مثلك”، كانت تلك اللحظة ذروة تحررها من صمتها، وتمردها على منظومةٍ جعلت النساء ظلالًا للرجال. بكلمات قليلة، حطمت الصورة النمطية للزوجة المطيعة، وقدمت أول ملامح المرأة التي تواجه النظام الذكوري في قلب السينما الأمريكية السبعينية.
دراما الجريمة القاتمة
من المفارقات اللافتة أن ديان كيتون، التي اشتهرت لاحقًا بأدوارها الكوميدية والناعمة في أفلام مثل Annie Hall وSomething’s Gotta Give، قد بدأت شهرتها الحقيقية من خلال دراما الجريمة القاتمة التي تحمل ملامح الخطر والدم.
غير أن هذا التناقض هو سر عبقريتها؛ فهي ممثلة تجيد التنقل بين النقيضين دون أن تفقد صدقها. في “العراب”، استخدمت ملامح وجهها المضيئة لتخلق توازناً بصرياً ونفسياً وسط عتمة الرجال. كانت صورتها البيضاء رمزًا للنقاء وسط الأسود، وكأنها العنصر الوحيد الذي يذكّرنا بأن هذه العائلة كانت يومًا ما بشرية، قبل أن تبتلعها السلطة.
رغم أن دورها في The Godfather لم يكن الأطول أو الأكثر صخبًا، إلا أنه كان أحد أهم مفاتيح شهرتها. فالمخرج فرانسيس فورد كوبولا كان يرى في كيتون “المرأة التي يمكن أن تحمل النور داخل العتمة”، وهو ما تحقق بالفعل.
لقد أظهرت للعالم أن الأداء النسائي لا يحتاج إلى البطولة الصاخبة ليُخلّد، بل إلى الصدق. كانت نظراتها أكثر تعبيراً من الكلمات، وصمتها أكثر بلاغة من الحوار.
حتى في المشهد الأخير من الجزء الأول، حين تُغلق الباب أمامها بينما مايكل يتلقى التحية كزعيم للعائلة، كان وجهها المصدوم يلخص مأساة أنثى تحب وتخسر في اللحظة نفسها.
بعد نجاح The Godfather، تحولت ديان كيتون إلى نموذجٍ للمرأة المستقلة في السينما الأمريكية. لم تكن تسعى لأن تكون “الجميلة بجانب البطل”، بل اختارت أدواراً تمنحها عمقاً وكرامة.
مع وودي آلن في Annie Hall، صنعت مدرسة جديدة في الأداء الطبيعي البسيط، ونالت عنها جائزة الأوسكار لأفضل ممثلة عام 1977. ومنذ ذلك الحين، أصبحت واحدة من رموز جيلٍ غيّر صورة المرأة في هوليوود، من التبعية إلى الاختيار، ومن التجميل إلى التفكير.
العالم الجديد والسلطة الذكورية
حين عُرض “العراب”في السبعينيات كانت الولايات المتحدة تشهد موجةً من التغيير الاجتماعي، وصعود حركة التحرر النسائي. ومن هنا جاء حضور كي آدامز كتجسيدٍ رمزيٍّ للمرأة التي تحاول فهم العالم الجديد حولها، لكنها تصطدم بجدرانٍ عالية من السلطة الذكورية.
ديان كيتون لم تكن تمثل “كي” فقط، بل كانت تُجسد أزمة المرأة الأمريكية نفسها — امرأة تتعلم أن الحب لا يكفي، وأن الاستقلال ليس رفاهية، بل ضرورة للبقاء.
غيّرت ديان كيتون من خلال The Godfather نظرة صُنّاع السينما إلى الأدوار النسائية داخل الأفلام الدرامية. بعد هذا الدور، لم يعد يُمكن اختزال المرأة في الزوجة أو العشيقة أو الأم؛ صار ممكنًا أن تكون المرأة ضمير الفيلم، وأن يُبنى عليها جانبٌ من الحبكة. حتى الممثلات اللاتي جئن بعدها — مثل ميريل ستريب وجلين كلوز ونيكول كيدمان — استفدن من هذا التحول الذي صنعته كيتون بجرأةٍ وهدوء. اليوم، وبعد مرور أكثر من خمسين عامًا على عرض The Godfather، لا يمكن تخيّل الفيلم بدون وجه ديان كيتون.
تعريف الأنوثة في السينما
قد يظل آل باتشينو وروبرت دوفال ومارلون براندو هم أعمدة العمل، لكن كيتون كانت الشعاع الخافت الذي منح هذه العائلة إنسانيتها، والمرأة التي جعلت المافيا تبدو بشرية للحظةٍ قصيرة قبل أن تعود إلى برودها الحديدي.
إنها ليست فقط بطلة فيلمٍ خالد، بل رمزٌ فنيّ لمرحلةٍ كاملة أعادت تعريف الأنوثة داخل السينما الأمريكية — أنوثة لا تخضع، بل تفكر، وتختار، وتثور.
لم تكن ديان كيتون أيقونة تمثيل فقط، بل أيقونة أسلوب ووعي. في زمنٍ كانت فيه هوليوود تفرض على المرأة أن تتحدث بلطفٍ وتتحرك بخفة الفراشة، جاءت كيتون لتقول إن الأنوثة ليست قالبًا من الزينة، بل اختيارًا حرًّا.
بقبعتها الشهيرة، وربطة عنقها، وبدلتها الرجالية التي صارت توقيعها الخاص، صنعت هوية مختلفة للمرأة على السجادة الحمراء؛ امرأة تفكر أولًا، وتحب بعقلها قبل قلبها، وتُعلن استقلالها ببدلةٍ بيضاء لا تقل أنوثة عن أي فستان سهرة.
لقد منحت ديان كيتون المرأة في السينما سلطة الشكل والمعنى معًا، وجعلت من البساطة فلسفة، ومن التفرد أسلوب حياة. وحين نعيد مشاهدة “العراب”، نكتشف أنها لم تكن مجرد بطلة في حكايةٍ عن الجريمة، بل كانت روحًا أنثوية تقف بثقة في وجه عالمٍ من الرجال… بابتسامةٍ لا تخطئها الذاكرة.