الفلاح المصرى أول من عزف السيمفونيات بقلم: د.فوزى الشامى
العجيب أن الفلاح كان أول من نقل إلى الشعب المصرى الموسيقى الأوروبية الكلاسيكية، تزامنا مع مشروع النهضة أوائل القرن التاسع عشر، فحين تولى محمد على باشا حكم مصر 1805. كان تراثنا الموسيقى السائد ذا طابع دينى صوفى يصعب عليه مواجهة متطلبات الحداثة؛ ولم يجد الباشا لتحقيق طموحه إلا اقتباس النظم الأوروبية الحديثة، خاصة فى مجال العلوم والفنون. ووسط تطلعه لبناء جيش نظامى قوى على غرار الجيوش الأوروبية، تطلب ذلك النهوض بمصر اقتصاديا، وتعليميا، واجتماعيا، فأرسل بعثات إلى الخارج فى كل مجالات العلوم العسكرية والبحرية والتطبيقية والآداب والفنون لنقل الخبرات الأوروبية.
وأنشأ فى الجيش بالضرورة فرقا للموسيقى العسكرية، استورد لها آلات أوروبية، واستقدم المعلمين لتعليم الجنود الفلاحين. وكانت هذه أولى خطوات التعليم الموسيقى الرسمى فى البلاد. وأمر بإعداد طائفة منهم لكل آلاى (لواء) من الجيش. وأنشأ محمد على مدرسة فى قرية «جهاد آباد» لتعليم مجموعة من أهاليها ليكونوا موسيقيين فى الجيش والأسطول. ونقلت هذه المدرسة لاحقا إلى الخانقاه (الخانكة)، وكانت تابعة لديوان الجهادية، ثم أصبحت تابعة لديوان المدارس فى 1837، وأبدى التلاميذ براعة فائقة ونبوغًا فى الموسيقي، وكانت هناك مدارس أخرى لتعليم الموسيقي، منها مدرسة فى أثر النبى (مصر القديمة) التى أغرقتها مياه الفيضان فنقلت إلى سوق السلاح، ومدرسة أخرى فى القلعة، وزارها كبار الأجانب وأبدوا إعجابهم الشديد ببراعة المصريين فى فهم الموسيقى الغربية، وأداء أصعب المقطوعات لأهم الموسيقيين الإيطاليين والفرنسيين. ويذكر أن محمد على أنشأ من 1824 إلى 1834 خمس مدارس موسيقية فى الجيش، كان الهدف منها تكوين فرق لأداء المارشات والموسيقى العسكرية.
ومن الذين تولوا الإشراف على المدارس «محمد ذاكر» (1836- 1906) الذى تدرج فى الرتب العسكرية إلى أن حاز رتبة قومندان، وتخرج فى إحدى هذه المدارس، وكان يصوغ الموشحات والأدوار والبشارف التى كان يؤديها التخت العربي، ويكتبها بطريقة التدوين الأوروبية لتتمكن الفرق العسكرية من أدائها وتقديمها إلى الجمهور فى المناسبات إلى جانب الموسيقى الأوروبية، كما كان يكتب مؤلفات خصيصًا للفرق العسكرية، منها مارش أفراح القبة الذى ما زالت الفرق العسكرية فى قطاعات الجيش والشرطة تعزفه حتى اليوم.
لم ينل «محمد ذاكر» الشهرة نفسها التى وصل إليها معاصروه «عبده الحامولي» و«محمد عثمان» آنذاك، مع أنه كان مجددًا، فقد تعلم الموسيقى العربية والغربية، وكانت مؤلفاته تبنى وفقًا لقواعد التناغم الصوتى المتبع فى أوروبا، الذى يطلق عليه «الهارموني».
وكان للموسيقات العسكرية دور اجتماعى مهم، فكانت الفرق تعزف فى المناسبات الاجتماعية كالأفراح والأعياد، وفى أكشاك الموسيقى فى الميادين بالمناسبات العامة، وشاركت فيها لاحقا موسيقات الشرطة، والملاجئ أو دور الأيتام، وظلت هذه الأكشاك مصدر ترفيه موسيقى مهمًا إلى أن تم إنشاء الإذاعة، فاختفت تدريجيا.
والمؤكد أن أول لقاء بين مصر والموسيقى الأوروبية تم عبر تعليم أبناء الفلاحين، وبجانب ما كان يتعلمونه ويعزفونه من مارشات عسكرية، أو موسيقى حماسية أوروبية، تعلموا عزف الأعمال السيمفونية الكلاسيكية التى يعزفها أى أوركسترا سيمفونى فى أوروبا، بعد إعادة صياغتها بما يتناسب مع أداء الفرق العسكرية التى تشتمل فقط على آلات النفخ والطبول. إذن فالموسيقى السيمفونية الأوروبية التى يستمع إليها ويمارسها أبناء الطبقات الأرستقراطية والمتوسطة فى مصرمنذ عشرات السنين وصلت إليهم من خلال الفلاح المصرى البسيط..
نقلا عن الاهرام اليوم