ايام مضت بقلم الأديب/ سيد على عبدالله
ايام مضت
بقلم الأديب / سيد على عبدالله
كل شئ ساكن في هذا الوقت، بين صلاة الفجر ومطلع الفجر، مما دعا الريح لتستبيح تلك البيوت القديمة التي أغلقها أصحابها وهجروها إلي بيوت جديدة انتصبت وسط الزراعات ، وفي أبراج علي صفحة النيل، غير أبهة لتقلص بقعة الأرض التي تجلب القمح، تصر الأبواب القديمة كلما هبت موجات جديدة من الريح، ويصطدم الغبار بالعتبات وواجهات الأبواب، ثم يختفي بهدوء كأن لم يكن
صارت مع الوقت مدينة للغبار، تذكر بـ مواسم الغياب أهلا كانوا هنا ورحلوا بفرح، تاركين ذكرياتهم كروح متعبة تقاوم الفناء.
هنا قام الجد ببناء هذا البيت من الطوب النيئ، عجن الطين جيدا مع التبن بيديه اليابستين، قبل أن يصبه في قوالب خشبية، رصه في العراء لتجففه الشمس، ثم جلب البناء ليقيم حوائطه علي مساحة قيراط، ثم قام بصناعة الباب من خشب شجرة كافور عمرت خمسين عاما.
طرحت ظلالها طمأنينة علي العابرين، وعطرت المكان حولها برائحة غامضة تشبه الحنين، قبل أن يجتثها المنشار، ويهذبها ألواحا، ثم قام الجد بجمع أخشابها من جديد في باب صبرات له مغلاق بجزئين من الخشب نفسه ليمنع عن العائلة فضول المارين جزء مجوف يثبت في بطن الجدار وجزء آخر له لسان يثبت علي حافة الباب كالعاشق والمعشوق، لم ينسى الجد أن يزين الأفريز بأعشاش الهواء وهي مصدات للريح استخدم لبنائها القوالب المائلة، علي واجهة الجدار الأمامي، الذي كساه النقاش بطبقة من زبد الطين قبل أن يرشه بالجير الأبيض، سجل باليوم والتاريخ سفر الجد قبل أن يهده الكبر، رسم الطائرة التي أقلته إلي الحجاز وترفرف بجناحيها، ورسم السفينة تشق البحار، وكتب بخط كبير حج وزار قبر النبي المختار، ثم قام الصبية بتوقيعات الفرح وأمتلأ الجدار بـ مخمسات الدم متفاوتة الحجم في الجوار قرب الطريق {مزيرة} بجوارها استندت إلي الحائط مصاطب عدة كانت تفرش في الأعياد بحصر الحلفاء المجدول، استقبلت ضيوفا كثيرين، واستراح عليها الجد كل أصيل.
انتظرمجئ ابنه بالعروس والأغنيات {أدلع ياعريس يا أبو لاسة نايلون أدلع ياعريس وعروستك نايلون} وودع ابنته إلي بيت زوجها وانتظر البشارة من العائدين {قولوا لأبوها إن كان جعان يتعشي} وفي الأعياد كانت شاهدة علي صواني الشاي وأطباق الكعك وهي تدور بين الأقارب، وفي السقيفة أربع دكك من خشب السنط ومفروشة من أكلمة نسجت من صوف الغنم الذي رعته الجده في الحوش القبلي، كلما جز الجد الصوف عن الغنم أدخرته هي في الجراب الكتاني، وأوكلت مهمة النسج إلي العمة التي استاعنت بـ إبنها ليرسم لها اسم العائلة لتطرزه علي طرف كل كليم بحرفية لاغبار عليها كي لا تختلط الأكلمة وتضيع إذا ما جامل أحد أفراد الأسرة بالمشاركة بها لفرش الدكك المرصوصة استعدادا لعرس أبنة الجيران، المنعطف المؤدي إلي المقعد معتم قليلا في الصباح، لا يأتيه الضوء إلا من مسقط السلم، يسطع المكان بالضوء وقت تعالي صوت المؤذن لصلاة الظهر ويظل هكذا حتي صلاة العصر.
تتساقط أشعة الشمس بغبارها الوهمي السابح في الضوء والذي كان يفر كلما حاول الأحفاد الإمساك به، هنا كانت جلسة الجد المفضلة لايضايقه صوت خوار الثور كلما دخلت الجدة لحلب البقرة في المساء، كان متكئا علي الحصير وقت ولادة ابنته البكر يوم تمت النسوة {أما قالوا بنيه عملولي البيض بالمية} وتهلل وجهه بالبشر في المكان نفسه بعد عام حين قالوا {لماقالوا ولد اتشد ضهري واتسند} عقد السقف علي أعمدة انتصبت مابين السقيفة وبقية غرف البيت، يتذكر الجد ويحكي كلما سمحت الفرصة أنه مدد فلقات النخيل وبقية غرف البيت ثم فرش عليها أكياس السماد الفارغة وغطاها بالطين والحصي، وكلما عاندته ريح الشتاء أو الأمطار وصهد الشمس في القيلولة، واقتلعت بعض الأكياس، عاد واصلحها بهمة، حتي ملت وتركته لبيوت بعيدة يتخوف أهلها من المجابهة