نِعْمَةُ قَبُولِ الْعَمَلِ الصَّالِحِ: بقلم فضيلة الشيخ أحمد على تركى
نِعْمَةُ قَبُولِ الْعَمَلِ الصَّالِحِ/ بقلم فضيلة الشيخ أحمد على تركى
مدرس القرآن الكريم بالأزهر الشريف
مِنْ أَجَلِ النِّعَمِ عَلَى الْعَبْدِ بَعْدَ نِعْمَةِ الْإِسْلَامِ نِعَمَةُ التَّوْفِيقِ لِلْعَمَلِ الصَّالِحِ ، وَأَنَّ اللهَ يَمُدُّ بِعُمُرِ الْعَبْدِ لِيُدْرِكَهَا .
وَمَعَ أَنَّهَا نِعْمَةٌ فَإِنَّهَا لَا تَتِمُّ إِلَّا بِنِعْمَةٍ أُخْرَى أعْظَمُ مِنْهَا أَلَا وَهِي نِعْمَةُ قَبُولِ هَذَا الْعَمَلِ الصَّالِحِ ؛ وَالْقَبُولُ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِشَرْطَيْنِ هُمَا :
إِخْلَاصٌ الْعَمَلِ لِلَّهِ تَعَالَى :
قَالَ تَعَالَى :
﴿ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ﴾
[الكهف: 110]
وَاِتِّبَاعُ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا الْعَمَلِ .
فَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَديثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا :
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :
مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ .
وَلِذَلِكَ نَجِدُ الْأَنْبِيَاءَ وَالسَّلَفَ الصَّالِحَ مِنْ بَعْدِهِمْ يَهْتَمُّونَ بِصَلَاَحِ الْعَمَلِ ، ثُمَّ يَهْتَمُّونَ بِقَبُولِهِ اِهْتِمَامًا خَاصًّا .
لِأَنَّ الْعَمَلَ لَا قِيمَةَ لَهُ إِذَا لَمْ يُقْبَلْ .
فَهَذَا إِبْرَاهِيِمُ الْخَلِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامَ يَبْنِي الْكَعْبَةَ مَعَ اِبْنِهِ إِسْمَاعِيِلَ وَيَقُولَانِ :
﴿ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾
[البقرة:127]
وَهَذِهِ أُمُّ مَرْيَمَ بِنْتِ عِمْرَانَ كَانَتِ اِمْرَأَةٌ لَا تَحْمِلُ فَرَأَتْ يَوْمًا طَائِرًا يُطْعِمُ فَرْخَهُ ، فَاشْتَهَتِ الْوَلَدَ فَدَعَتِ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يَهِبَهَا وَلَدًا ، فَاسْتَجَابَ اللهُ دُعَاءَهَا فَلَمَّا تَحَقَّقَ الْحَمْلَ ؛ دَعَتْ رَبَّهَا قَبُولَ هَذَا الْعَمَلِ فَقَالَتْ :
﴿ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي ۖ إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾
[ آل عمران : ٣٥]
وَكَانَ مِنْ دُعَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
رَبِّ تَقَبَّلْ تَوْبَتي ، وَاغْسِلْ حَوْبَتِي ، وَأَجِبْ دَعْوَتِي.
رواه ابن ماجه
وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ فِي سُنَنِهِ مِنْ حَديثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ :
سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ :
﴿ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ ﴾
[المؤمنون: 60]
قَالَتْ عَائِشَةُ : أَهُمْ الَّذِينَ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ وَيَسْرِقُونَ ؟
قَالَ : لَا يَا بِنْتَ الصِّدِّيقِ ، وَلَكِنَّهُمْ الَّذِينَ يَصُومُونَ وَيُصَلُّونَ وَيَتَصَدَّقُونَ ، وَهُمْ يَخَافُونَ أَنْ لَا يُقْبَلَ مِنْهُمْ ، أُولَئِكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ .
وَلَقَدْ كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ اِجْتِهَادِهِمْ فِي الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ يَخْشَوْنَ أَنْ تُحْبَطَ أَعْمَالُهُمْ ، وَأَلاَّ تُقْبَلَ مِنْهُمْ لِرُسُوخِ عِلْمِهِمْ وَعَمِيقِ إيمَانِهِمْ .
قَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ رَحِمَهُ اللهُ :
أَدْرَكْتُ ثَلاَثِينَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلُّهُمْ يَخَافُ النِّفَاقَ عَلَى نَفْسِهِ ، مَا مِنْهُمْ أَحَدٌ يَقُولُ :
إِنَّهُ عَلَى إِيمَانِ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ .
[رواه البخاري]
قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ :
لَأَنْ أَسْتَيْقِنَ أَنَّ اللَّهَ قَدْ تَقَبَّلَ مِنِّي صَلَاةً وَاحِدَةً أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا ، إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ :
﴿ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ }
[رواه ابن أبي حاتم وحسنه]
وَقَالَ عَامِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى :
لَحَرْفٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ أُعْطَاهُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ الدُّنْيَا جَمِيعًا .
فَقِيلَ لَهُ : وَمَا ذَاكَ يَا أَبَا عَمْرٍو ؟
قَالَ : أَنْ يَجْعَلَنِي اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ فَإِنَّهُ قَالَ :
﴿ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ﴾
قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ :
كُونُوا لِقَبُولِ الْعَمَلِ أَشَدَّ اِهْتِمَامًا مِنْكُمْ بِالْعَمَلِ ، أَلَمْ تَسْمَعُوا لِقَوْلِ اللهِ تَعَالَى :
﴿ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ﴾
[المائدة: 27]
اعْلَمُوا أَنَّ مِنْ أَعْظَمِ عَلَاَمَاتِ قَبُولِ الْعَمَلِ :
أَنْ يُتْبِعَ الْعَبْدُ الْحَسَنَةَ بِحَسَنَةٍ مِثْلَهَا ؛ وَمِصْدَاقُ هَذَا فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه :
عَليْكُم بِالصِّدقِ فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ ، وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ .
وَمِنْ عَلَاَمَاتِ قَبُولِ الْعَمَلِ :
اِسْتِشْعَارُ الْمُؤْمِنُ تَقْصِيرَهُ فِي عَمَلِهِ ، وَمِنَّةَ اللهِ عَلَيْهِ ، وَتَوْفِيقَهُ لِهَذَا الْعَمَلِ ، وَأَنَّهُ لَوَلَا رَبَّهُ لَمَا حَصَلَ .
قَالَ تَعَالَى :
﴿ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
[ النور :21 ]
وَمِنْ عَلَاَمَاتِ قَبُولِ الْعَمَلِ :
إِحْسَاسُ الْعَبْدُ بِلَذَّةِ الْعِبَادَةِ فَتَكُونُ أُنْسَهُ وَرَاحَتَهُ .
قَالَ بَعْضُ أهْلِ الْعِلْمِ :
خِفَّةُ الطَّاعَةِ مِنْ آثَارِ مَحَبَّةِ الْمُطَاعِ وَإجْلَالِهِ ، فَإِنَّ قُرَّةَ عَيْنِ الْمُحِبِّ فِي طَاعَةِ الْمَحْبُوبِ .
وَلِذَلِكَ قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا عِنْدَ النَّسَائِيِّ بِسَنَدِ صَحِيحٍ :
وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ .
لَمَا فِيهَا مِنَ الْمُؤَانَسَةِ وَلَذَّةِ الْقُرْبِ ، وَأُنْسِ الْمُنَاجَاةِ لِلَّهِ تَعَالَى ؛ فَاتُّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ .
رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ،ط وَاِغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدِينَا وَلِجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ ، يَا رَبِّ الْعَالَمِينَ