اذْكُرُوا مَحَاسِنَ مَوْتَاكُمْ وَكُفُّوا عَنْ مَسَاوِئِهِمْ
اذْكُرُوا مَحَاسِنَ مَوْتَاكُمْ وَكُفُّوا عَنْ مَسَاوِئِهِمْ
بقلم فضيلة الشيخ أحمد على تركى
مدرس القرآن الكريم بالأزهر الشريف
اذْكُرُوا مَحَاسِنَ مَوْتَاكُمْ وَكُفُّوا عَنْ مَسَاوِئِهِمْ .
أخرجه أبو داود والترمذي وابن حبان والطبراني
وعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ :
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
لاَ تَسُبُّوا الأَمْوَاتَ ، فَإِنَّهُمْ قَدْ أَفْضَوْا إِلَى مَا قَدَّمُوا.
أخرجه البخاري .
فهل دلالة الحديثين عامة أم مخصوصة؟
والجواب
أن دلالة الحديثين مخصوصة بمن لم يجاهر بكبيرة أو بدعة أو إلحاد وردة .
فقد ثبت ما يعارضهما .
فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ :
مَرُّوا بِجَنَازَةٍ ، فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا خَيْرًا .
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
وَجَبَتْ .
ثُمَّ مَرُّوا بِأُخْرَى فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا شَرًّا فَقَالَ : وَجَبَتْ .
فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ :
مَا وَجَبَتْ؟
قَالَ : هَذَا أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ خَيْرًا فَوَجَبَتْ لَهُ الجَنَّةُ .
وَهَذَا أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ شَرًّا فَوَجَبَتْ لَهُ النَّارُ .
أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الأَرْضِ .
[أخرجه البخاري ومسلم
قال النووي في “شرح صحيح مسلم” (7/20):
فَإِنْ قِيلَ :
كَيْفَ مُكِّنُوا بِالثَّنَاءِ بِالشَّرِّ مَعَ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ فِي الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ فِي النَّهْيِ عَنْ سَبِّ الْأَمْوَاتِ ؟
فَالْجَوَابُ
أَنَّ النَّهْيَ عَنْ سَبِّ الْأَمْوَاتِ هُوَ فِي غَيْرِ الْمُنَافِقِ وَسَائِرِ الْكُفَّارِ وَفِي غَيْرِ الْمُتَظَاهِرِ بِفِسْقٍ أَوْ بِدْعَةٍ .
فَأَمَّا هَؤُلَاءِ فَلَا يَحْرُمُ ذِكْرُهُمْ بِشَرٍّ لِلتَّحْذِيرِ مِنْ طَرِيقَتِهِمْ ، وَمِنَ الِاقْتِدَاءِ بِآثَارِهِمْ وَالتَّخَلُّقِ بِأَخْلَاقِهِمْ .
وَهَذَا الْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ الَّذِي أَثْنَوْا عَلَيْهِ شَرًّا كَانَ مَشْهُورًا بِنِفَاقٍ أَوْ نَحْوِهِ مما ذكرنا .
هَذَا هُوَ الصَّوَابُ فِي الْجَوَابِ عَنْهُ وَفِي الْجَمْعِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّهْيِ عَنِ السَّبِّ ، وَقَدْ بَسَطْتُ مَعْنَاهُ بِدَلَائِلِهِ فِي كِتَابِ الْأَذْكَارِ .
وقد بوب النووي على حديث النهي عن سب الأموات في كتاب الأذكار بقوله :
بابُ النهي عن سبِّ الأموات بغير حق ومصلحة شرعية .
أي : إذا كان بحق ، أو لمصلحة شرعية جاز ، ثم قال (صـ 295):
قلتُ : قال العلماءُ : يَحرم سبُّ الميت المسلمَ الذي ليس معلنًا بفسقه .
وأما الكافرُ : والمُعلِنُ بفسقه من المسلمين ، ففيه خلاف للسلف .
وجاءت فيه نصوص متقابلة ، وحاصلُه أنه ثبت في النهي عن سبّ الأموات ما ذكرناهُ في هذا الباب .
وجاء في الترخيص في سبِّ الأشرار أشياء كثيرةٌ منها :
ما قصَّه الله تعالى علينا في كتابه العزيز وأمرنا بتلاوته وإشاعة قراءته ومنها :
أحاديثُ كثيرة في الصحيح ومنها :
الحديث الصحيح الذي قدّمناه لَمَّا مرّت جنازة فأثنوا عليها شرًّا ، فلم ينكر عليهم النبيّ صلى الله عليه وسلم ؛ بل قال : وجبتْ .
وأما أمواتُ المسلمين المعلنين بفسق أو بدعةٍ أو نحوهما فيجوز ذكرُهم بذلك إذا كان فيه مصلحة لحاجة إليه للتحذير من حالهم ، والتنفير من قبول ما قالوه ، والاقتداء بهم فيما فعلوه ، وإن لم تكن حاجةٌ لم يجزْ ، وعلى هذا التفصيل تُنَزَّلُ هذه النصوص .
وقد أجمعَ العلماءُ على جرح المجروح من الرواة [وذلك للمصلحة] والله أعلمُ».
وبهذا التفصيل قال البيهقي، فقد بوب في السنن الكبرى (7/513) على حديث النهي عن السبَّ بقوله :
بَابُ النَّهْيِ عَنْ سَبِّ الْأَمْوَاتِ وَالْأَمْرِ بِالْكَفِّ عَنْ مَسَاوِئِهِمْ ، إِذَا كَانَ مُسْتَغْنِيًا عَنْ ذِكْرِهَا .
أي : لا تُذكر المساوئ إلا لمصلحة ثم قال :
وَفِيهِ دَلَالَةٌ [أي: حديث ذكر الميت بالشر] عَلَى جَوَازِ ذِكْرِ الْمَرْءِ بِمَا يَعْلَمُهُ مِنْهُ إِذَا وَقَعَتِ الْحَاجَةُ إِلَيْهِ … ، وَكَأَنَّ الَّذِي أَثْنَوْا عَلَيْهِ شَرًّا كَانَ مُعْلِنًا بَشَرِّهِ فَأَرَادَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَجْرَ أَمْثَالِهِ عَنْ شُرُورِهِمْ .
وقال ابن بطال في “شرح صحيح البخارى” (3/ 354) :
فإن كان الرجل أغلب أحواله الخير ، وقد تكون منه الفلتة ، فالاغتياب له محرم .
وإن كان فاسقًا معلنًا فلا غيبة فيه .
فكذلك الميت إذا كان أغلب أحواله الخير لم يجز ذكر ما فيه من شر ولا سبه به وإن كان أغلب أحواله الشر فيباح ذكره منه ، وليس ذلك مما نهى عنه من سب الأموات .
ويؤيد ذلك ما أجمع عليه أهل العلم من ذكر الكذابين وتجريح المجرَّحين .
والخلاصة:
أن الكثير من الشراح لم يفرقوا بين السبِّ وذكر المساوئ .
والذي يظهر لي
أنه لا تلازم بين السبِّ وذكر المساوئ لحاجة أو مصلحة ، كالتحذير والتنفير من شرك ، أو إلحاد ، أو بدعة أو فسق ونحو ذلك فهذا كله جائز ومطلوب شرعًا .
أما النهي عن سبِّ الأموات فعَامٌّ يدخل فيه المسلم وغير المسلم على الأرجح ، إذ لا مصلحة فيه .
وقد قال الصنعاني في “سبل السلام” (1/ 510):
قَوْلَهُ : قَدْ أَفْضَوْا إلَى مَا قَدَّمُوا عِلَّةٌ عَامَّةٌ لِلْفَرِيقَيْنِ مَعْنَاهَا :
أَنَّهُ لَا فَائِدَةَ تَحْتَ سَبِّهِمْ وَالتَّفَكُّهِ بِأَعْرَاضِهِمْ .
وَأَمَّا ذِكْرُهُ تَعَالَى لِلْأُمَمِ الْخَالِيَةِ بِمَا كَانُوا فِيهِ مِنْ الضَّلَالِ فتَحْذِيرٌ لِلْأُمَّةِ مِنْ تِلْكَ الْأَفْعَالِ الَّتِي أَفَضْت بِفِعْلِهَا إلَى الْوَبَالِ وَبَيَانِ مُحَرَّمَاتٍ ارْتَكَبُوهَا ، وَذِكْرُ الْفَاجِرِ بِخِصَالِ فُجُورِهِ لِغَرَضٍ جَائِزٍ وَلَيْسَ مِنْ السَّبِّ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ .
فلا مصلحة في السبِّ فالنهي عنه عَامٌّ .
وهناك أيضًا علة أخرى في النهي عن السبِّ وهي
إيذاء الأحياء من أقاربهم ونحوهم .
فعَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ :
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
لَا تَسُبُّوا الْأَمْوَاتَ فَتُؤْذُوا الْأَحْيَاءَ .
أخرجه الترمذي (1982)
وقد بوب ابن حبان (3022) عليه بقوله :
ذِكْرُ الْبَعْضِ مِنَ الْعِلَّةِ الَّتِي مِنْ أَجْلِهَا نَهَى عَنْ سَبِّ الْأَمْوَاتِ .