مديحة يسري.. سمراء النيل وأيقونة السينما المصرية

مديحة يسري.. سمراء النيل وأيقونة السينما المصرية

في ذكرى رحيلها، نستعيد سيرة فنانة استثنائية حملت الفن المصري على كتفيها لعقود، وظلت تمثل قدوة للنساء في الرقي، والإبداع، والاحتراف، والتفاني. إنها مديحة يسري، التي لقّبها الجمهور ووسائل الإعلام بـ”سمراء النيل”، وخلّدها النقاد ضمن أسماء الصف الأول في تاريخ السينما العربية.

كتبت / ماريان مكاريوس

بداية غير متوقعة

جاء دخول مديحة يسري إلى عالم الفن بمحض المصادفة، حين اكتشفها المخرج الكبير محمد كريم في الأربعينيات. كانت حينها فتاة في بدايات العشرينيات، تتمتع بجمال شرقي هادئ وحضور طبيعي لافت.
قدّمها في دور صغير في فيلم “ممنوع الحب” (1942) أمام موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب، وسرعان ما لفتت الأنظار بأدائها الرقيق وصوتها الحنون.

توالت الأدوار في أفلام مثل “رصاصة في القلب”، ثم جاءت بطولتها الأولى في “أحلام الشباب”. أما الانطلاقة الكبرى، فكانت حين تبناها عملاق المسرح والسينما يوسف وهبي، وضمّها إلى فيلم “الفنان العظيم”، لتثبت موهبتها في تجسيد الشخصيات المركّبة دون افتعال.

رصيد فني حافل

امتدت مسيرتها لأكثر من نصف قرن، وقدّمت خلالها ما يزيد عن 98 عملًا ما بين السينما والتلفزيون. تميزت أفلامها بالتنوع، وجسّدت أدوارًا نسائية شديدة العمق، من العاشقة إلى الأم، ومن الضعف إلى القوة.

من أبرز أعمالها:

(النائب العام)( وفاء) (من غير وداع) (امير الانتقام )(حياة أو موت) (الخطايا)(الخادمة)

أمير الانتقام (1950)

حياة أو موت (1954)

الخطايا (1962)

وقد اختير ثلاثة من أفلامها ضمن قائمة أفضل 100 فيلم مصري في استفتاء مهرجان القاهرة السينمائي.

سمراء النيل

اكتسبت مديحة يسري لقب “سمراء النيل” بعد مشاركتها في فيلم “تحيا الستات”، الذي غنّت فيه أغنية “يا نور العين يا سمرا”. لم يكن جمالها فقط في ملامحها الشرقية، بل في حضورها الهادئ واختياراتها الواعية.

حافظت على صورة المرأة الراقية والواعية، ورفضت الأدوار التي تسيء للمرأة أو تفرّغها من مضمونها. لهذا بقيت رمزًا لاحترام الجمهور والنقاد معًا.

من الشاشة إلى الإنتاج

لم تكتف بالتمثيل، بل أسّست شركة إنتاج سينمائي مع زوجها الأول الفنان محمد أمين، وقدّمت أعمالًا ذات بُعد اجتماعي وإنساني. كانت من أوائل النجمات اللاتي شاركن في صناعة القرار الفني خلف الكاميرا.

زواج وحياة شخصية

تزوجت أربع مرات، أبرزها من الفنان والمطرب محمد فوزي، وشكّلا ثنائيًا فنيًا وغنائيًا في الخمسينيات. أنجبا طفلًا وحيدًا توفي في شبابه، وهو ما ترك جرحًا عميقًا في حياتها.

قالت عنها لاحقًا:
“فقدت ابني الوحيد وفقدت فوزي، كأن القدر أخذ من قلبي كل شيء دفعة واحدة.”

التصميم بيديها

امتازت مديحة بذوق فريد في اختيار ملابسها، والمفاجأة أنها كانت تصمّم وتحوك معظم أزيائها بنفسها. لم تفعل ذلك فقط للخصوصية، بل لضمان تفرّدها.

في أحد أفلامها، صممت أكثر من 20 زيًا مختلفًا. وقد لفت ذلك نظر السيدة أم كلثوم، التي دعتها في عام 1965 لتسألها عن سر أناقتها. بعدها، أصبحت مديحة مستشارة غير رسمية لأم كلثوم في الأزياء، ما أحدث طفرة في أناقة كوكب الشرق.

جمال الفكر والروح

رغم أنها لم تُكمل تعليمها الجامعي، فإنها عوّضت ذلك بالاطلاع، والمشاركة المجتمعية. ففي عام 1998، عُيّنت عضوًا في مجلس الشورى المصري، تقديرًا لدورها الثقافي.

وفي 2017، حصلت على الدكتوراه الفخرية من أكاديمية الفنون، تأكيدًا لريادتها الفنية والثقافية.

وصفتها مجلة Time الأمريكية في الأربعينيات بأنها من أجمل عشر نساء في العالم، وكتبت عنها:
“المرأة التي يتمناها ربع رجال الأرض.”

الوداع الأخير

في عام 2012، قررت الاعتزال بهدوء، بعدما شعرت أن صحتها لم تعد تساعدها. توفيت في مايو 2018 عن 96 عامًا، بعد صراع مع المرض.

شيّعها كبار الفنانين، ونعَتها نقابة المهن التمثيلية كرمز من رموز الفن الرفيع

إرث لا يُنسى

لم تكن مديحة يسري مجرد نجمة، بل كانت مدرسة فنية وأخلاقية. صنعت مجدها بتواضع، وحافظت على كرامتها بقوة، ورفعت راية الفن الراقي في زمن كان يحاول استنزاف المرأة شكلاً دون مضمون.

وحتى بعد رحيلها، لا تزال مديحة يسري حيّة في ذاكرة جمهورها… سمراء النيل التي علّمتنا أن الأناقة تبدأ دائما من الداخل

قد يعجبك ايضآ
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.