الابتلاء منحه إلهية… ورحمة تختبئ وراء المحنة
بقلم ريهام طارق
من سنن الله الثابتة في عباده أن يجعل حياتهم مزيجًا بين السراء والضراء، والنعم والابتلاء، فلا يكاد مؤمن يخلو من امتحانات تكشف صدق إيمانه، وتبرهن عمق يقينه بالله عز وجل.
وخلف هذه الابتلاءات يكمن اللطف الإلهي الخفي، الذي لا يُدركه العبد في لحظته، لكنه مع مرور الوقت يكتشف أن ما ظنه محنة كان في حقيقته سترًا و رحمةً و سببًا لخير أعظم، وحماية من بلاء أكبر، قد يُصاب المرء بمرض يصرفه عن معصية، أو يُبتلى بخسارة مال تحجزه عن فتنة الدنيا وغرورها، وهنا يتجلى لطف الله الذي يُدركه المؤمن ببصيرته قبل عقله، ويوقن أن وراء كل محنة منحة ووراء كل حرمان رحمه حتى وإن قصرت العقول عن استيعاب الحكمة في حينها.
قال تعالى: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾ [البقرة: 155].
إنها آية جامعة تؤكد أن الابتلاء مهما اشتدّ، فإنه يحمل في طياته بشارة بالخير والفلاح، لمن صبر واحتسب ورضي بحكم الله.
محمد ﷺ أعظم قدوة للبشرية في الصبر والرضا بقضاء الله:
ومن أعظم ما ابتُلي به النبي صلى الله عليه وسلم فقدُ أحبّ الناس إلى قلبه، فقد رحلت زوجته الأولى السيدة خديجة بنت خويلد رضي الله عنها، التي كانت سنده و موئله بعد الله، فكان لفقدها أثر عميق في نفسه الشريفة حتى سُمّي ذلك العام بـ عام الحزن، ولم يمض وقت طويل حتى فقد جده عبد المطلب الذي كفله صغيرًا بعد وفاة أبيه وأمه، فذاق مرارة اليتم مرة أخرى. كما شاء الله أن يبتليه بفقد أبنائه، فمات ابنه إبراهيم وهو طفل صغير، فذرف النبي ﷺ الدموع وقال كلمته الخالدة: {إن العين لتدمع، وإن القلب ليحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون}.
وبعدها ودّع بناته واحدة تلو الأخرى، فلم يتبقَّ له عند وفاته سوى السيدة فاطمة الزهراء رضي الله عنها، وهكذا شاء الله أن يذيق نبيه المصطفى ﷺ مرارة الفقد والابتلاء، ليكون قدوة للبشرية في الصبر والرضا بقضاء الله، وليُعلّم أمته أن البلاء طريق الأنبياء، وأن الصبر فيه رفعة و اصطفاء.
رحلة يوسف من الجب والسجن الي عزيز مصر
قصة يوسف عليه السلام أبلغ مثال على أن البلاء قد يكون طريقًا للتمكين، والارتقاء، أُلقي يوسف في الجب صغيرًا، ثم بيع عبدًا، ثم زُجّ به في السجن ظلمًا، لكن تلك المحن كانت أبوابًا للمنح، فخرج من السجن عزيزًا لمصر، وهنا يتجلى اللطف الخفي فما كان يُظن أنه هلاك، كان في حقيقته إعدادًا لمقام عظيم.
لطف الله بنبي الله يوسف جعل من المحنة منحة ومن الخطر أمانًا
موسى عليه السلام وُلِد في زمن يُقتل فيه كل مولود ذكر من بني إسرائيل، و ألقت به أمه في اليم خوفًا عليه، فإذا بالخوف ينقلب إلى نجاة، ويُربى في قصر فرعون نفسه، لطف الله الخفي جعل من المحنة منحة، ومن الخطر أمانًا.
أيوب عليه السلام: مثال الصبر واليقين برحمة الله
ابتُلي الله سبحانه وتعالى النبي أيوب عليه السلام في جسده سنين طويلة، لكنه لم يتزحزح عن صبره ولم يتخلي عن يقينه بالله، وحين دعا ربه انكشف البلاء عنه، و رد الله عليه صحته ورزقه وأهله مضاعفًا، وهنا يتجلى أن البلاء قد يكون مفتاحًا لعطاء أوسع ونعم أكبر.
في رحلة موسى والخضر… يكشف الخضر لطف التدبير الخفي
من أعظم صور الابتلاء التي تُجسد اللطف الإلهي الخفي ما قصّه الله تعالى في سورة الكهف عن رحلة سيدنا موسى عليه السلام مع العبد الصالح الخضر، فقد شهد موسى أحداثًا ظاهرها قسوة، لكنها في حقيقتها رحمة محجوبة خَرقُ السفينة كان حفاظًا لأصحابها من اغتصاب ملكٍ جائر، وقتلُ الغلام كان سترًا لوالديه المؤمنين من فتنة كبرى قد تجرهم إلى الكفر، وإقامةُ الجدار للحفاظ على كنز يتيمين ضعيفين حتى يبلغا أشدهما و يستخرجا كنزهما.
عندما يأتي نصر الله يأتي من رحم الابتلاء
وفي سيرة الصحابة رضي الله عنهم أروع الأمثلة على أن البلاء ليس نهاية الطريق، بل بداية لنصر أكبر، عندما استُشهد حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه في غزوة أُحد، اعتقدت قريش أن الإسلام قد ضعف، فهللوا فرحًا وظنوا أن شوكة المسلمين قد تكسرت، لكن ما لم يدركوا أن دماء حمزة كانت بشرى لفتح قريب، إذ لم تمضِ سنوات حتى جاء فتح مكة الذي كسَر الأصنام ورفع لواء التوحيد، ليعلم الناس أن نصر الله يأتي من رحم الابتلاء.
إن تأمل قصص الأنبياء وتجارب النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام يكشف لنا أن الابتلاء باب من أبواب الاصطفاء والرحمة، فما يراه العبد نقمة قد يكون سترًا من الله، وما يظنه انكسارًا قد يكون تمهيدًا لنصر عظيم، والبلاء يُعلّم النفس الصبر والرضا، و يُفتح به للعبد أبواب الأجر ورفعة الدرجات.
إذا استقر هذا المعنى في قلب المسلم، عاش مطمئنًا واثقًا أن لطف الله الخفي يرافقه في كل ابتلاء، وأن وراء كل محنة منحة.
{اللهم إني أعوذ بك من جهد البلاء و درك الشقاء وسوء القضاء و شماتة الأعداء}