سقوط الأقنعة … قصة لـــ : ماهر اللطيف

سقوط الأقنعة

بقلم: ماهر اللطيف

تحرير، نغم، شغف وتغريد… أربع فتيات في سن المراهقة، يدرسن في آخر سنة من التعليم الثانوي. جميلات، أنيقات، بوجوه تزرع الراحة والأمان، وتغري بالذوبان في حبهن دون تفكير، يزدن ذلك عذوبة كلام، ودلالًا، ورهافة تواصل.
لكنّ القدر وزّعهن على مدن مختلفة من البلاد، لا يجمعهن سوى خيط هشّ عبر وسائل التواصل الاجتماعي. هناك، تعرّفن بسرعة، صرن صديقات مقرّبات، يسررن بأسرارهن، يتناقشن، يحللن، يبرمجن، ويفعلن كل شيء تقريبًا معًا، رغم البعد.
أمّا سرّ اللقاء فيعود إلى شخص واحد: دريد. ثلاثيني مقيم في العاصمة، نادل بمقهى قديم، يعيش في شقة ضيّقة مع أبويه وخمسة إخوة. قصير القامة، أسود الشعر، قبيح الوجه والسلوك، ذائع الصيت بين أقرانه بالبغض والحسد والأنانية. انقطع عن الدراسة منذ الإعدادية، وانغمس في عالم مواقع التواصل حتى صار مدمنًا عليها.
كان يتقن لعبة الكذب والإيهام: يقدّم نفسه ثريًا، يرسل صورًا أمام سيارات وقصور ليست له، يردد لازمة محفوظة: “أنا لا تهمني الأموال… وسخ دنيا”، ويُغرق ضحاياه من المراهقات بوعود الزواج القريب.
وكانت الفتيات الأربع من بين ضحاياه الكثر، إذ صدّقن حكاياته، تبادلن معه الصور (غير الحقيقية، بما أن فئة من الفتيات يرفضن كشف وجوههن)، وتوهّمن أن أبواب الجنة قد فُتحت لهن أخيرًا.
لكن تغريد، الأكثر انتباهًا، لاحظت أسماء غريبة تتكرر في منشوراته وتعليقاته: عزيزتي، مهجة قلبي، توأم روحي… وهي العبارات نفسها التي يهمسها في أذنها. فتقصّت أكثر، وتواصلت مع نغم، ثم شغف، ثم تحرير… لتكتشف المفاجأة: كلهن “حبيبات دريد”، كلهن فريسات شراكه.
الصدمة كانت مدمّرة، كادت تفتك بكل واحدة منهن بدرجات مختلفة. غير أن الانكسار سرعان ما تحوّل إلى عزيمة على الانتقام: استعادة كرامتهن، ردّ أنوثتهن المهدورة، وإيقاعه في فخ علني. أنشأن مجموعة سرية على الماسنجر، رتّبن التفاصيل بدقّة، واتفقن على المواجهة الكبرى في المقهى حيث يعمل.
وجاء يوم الأحد. كان دريد منهمكًا كعادته في خدمة الحرفاء، حين سمع صوتًا أنثويًا:
– “أيها النادل، لحظة من فضلك.”
اقترب، فإذا به أمام أربع فتيات أنيقات. طلبن مشروباتهن ببرود، تبادلن النظرات، ثم انطلق العرض.
استعارت تحرير المصدح من صاحب المقهى، الذي لم يكن راضيًا أصلًا عن تصرفات دريد، وقالت بصوتها العذب الرقيق:
“نحن مجموعة من الفتيات الناشطات في الجمعيات المدنية وعبر منصات التواصل الاجتماعي، نستغل وجودنا بينكم في هذا المكان لنعلن عن مسابقة طريفة، تتوَّج بجائزة قيّمة تُمنح لصاحب أحسن موقف طريف عاشه مع حبيبته أو حبيبه. ولتوضيح العملية، سنبدأ نحن بسرد بعض تجاربنا…”
قصّت حكايتها دون ذكر أسماء، ثم ختمت:
– “ادعى أنه ثري، عظيم الشأن، فإذا به وضيع كاذب.”
جاء دور نغم:
– “قال لي إن قلبه اكتفى بي… ثم اكتشفت أن قلبه بحر يتسع لكل النساء.”
وأضافت شغف:
– “أما صوره بجانب القصور والسيارات، فما كانت سوى دليل نفاقه وهروبه من أصله الحقير.”
ثم تغريد:
– “كلماته الرومانسية الساحرة كانت قناعًا يخفي نرجسيًا شيطانيًا في ثوب إنسان.”
كان دريد يتصبّب عرقًا، ويرتعش كلما سمع جملة تشير إلى خداعه. لم يجرؤ أحد من الحرفاء على الالتفات نحوه، لكنه هو من راح يتفحص وجوههم بعينين زائغتين، يتوهّم أنهم كشفوا سره. وكلما تلاقت عيناه بعيني أحدهم، احمرّ وجهه واشتد اضطرابه، كأن نظراتهم تخترقه وتدين ما اقترفه.
فقالت نغم بصوت مرتفع: بعدما لاحظت تململه
– “ما بك يا سيّد دريد؟ لِمَ تبدُو مضطربًا؟”
واستهزأت شغف:
– “هلاّ قصصت علينا إحدى مغامراتك العظيمة؟”
وأضافت تغريد ساخرة:
– “قصصه تفوقت على نجيب محفوظ وإحسان عبد القدوس!”
ثم تقدمت تحرير نحوه، وقالت:
– “أنا تحرير، وهذه شغف، وتلك نغم، وهذه تغريد… نحن حبيباتك أيها الفارس المغوار، نحن من كذبت عليهن وتلاعبت بمشاعرهن!”
حاول التملص:
– “لا… أنتن فهمتنني خطأ، لم أعد بشيء…”
لكن الأدلة كانت دامغة، والحضور انقلبوا عليه: شتم، بصق، ولعنات. حتى صاحب المقهى صرخ:
– “اخلع لباس العمل، وغادر حالًا. لا مكان لك بيننا بعد اليوم.”
خرج دريد مطرودًا، يلاحقه السخط والصفير، وهو يجر خطاه متسائلًا في ذهول: “هل كان بالإمكان أحسن مما كان؟ أكان الأجدر أن أطوّر أساليبي فلا أنفضح بهذه السذاجة؟ وكيف سأواجه البقية؟”
ولم يخطر بباله أن الأسوأ قد وقع فعلًا: خسارته عمله، وانهيار وضعه الاجتماعي، وفقر يزداد توغلًا في حياته.
قد يعجبك ايضآ
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.