الاحترام المفقود في الحوار.. لماذا صرنا نصرخ أكثر مما نفكر؟

بقلم: هاني سليم

في زمنٍ كان فيه للكلمة وزنها وللنقاش قيمته، كان الناس يتحاورون ليصلوا إلى الفهم، لا إلى الغلبة. أما اليوم، فقد تحوّل الحوار عند كثيرين إلى معركة أصوات، كل طرف فيها يريد أن يُسمِع لا أن يسمع، أن يفرض رأيه لا أن يتبادل الفهم. وكأننا نعيش عصر “الضجيج”، لا عصر “العقل”.

من حوار العقول إلى صراع الأصوات

زمان، كان كبار العائلة يجلسون في مجالس تحكمها الهيبة والاحترام، الكلمة تُقال بوزن، والرأي المخالف يُناقش بحكمة، حتى الخلاف كان له ذوق. أمّا الآن، في زمن السوشيال ميديا والردود السريعة، أصبح الحوار ساحة ملاكمة لفظية، يربح فيها من يصرخ أكثر أو يملك متابعين أكثر، لا من يقدّم الحجة الأقوى.
لم يعد الناس يبحثون عن الحقيقة، بل عن الانتصار. نرى ذلك في المناقشات اليومية، في العمل، في البيت، على الإنترنت، وحتى في البرامج الحوارية التي تحوّلت إلى ساحات صخب لا صوت فيها للعقل. كأنّ “الهدوء” أصبح علامة ضعف، و”الاحترام” صار سذاجة.

غياب ثقافة الإصغاء

المشكلة الحقيقية ليست في اختلاف الآراء، بل في غياب فن الإصغاء. نحن نسمع لنرد، لا لنفهم. ننتظر دورنا في الكلام أكثر مما نحاول التقاط ما يقوله الآخر. ومع غياب مهارة الإصغاء، تضيع المعاني وتشتعل الكلمات، لأن كل شخص يشعر أنه غير مسموع، فيرفع صوته أكثر… وهكذا يستمر الصراخ الدائري الذي لا نهاية له.
الإصغاء احترام، والاحترام جوهر أي حوار ناجح. لكنه حين يغيب، يتحول النقاش إلى “معركة أنا”، لا “مساحة نحن”.

السوشيال ميديا.. ساحة بلا آداب

الاحترام المفقود في الحوار ازداد عمقًا مع صعود وسائل التواصل الاجتماعي. فالشاشة منحت البعض جرأة لم يكونوا يمتلكونها وجهًا لوجه، وأصبحنا نرى شتائم تُطلق بلا حساب، وآراء تُهاجم بلا تفكير. خلف الكيبورد، تسقط الحواجز، ومعها تسقط القيم أحيانًا.
لم يعد الناس يتحاورون ليتبادلوا وجهات نظر، بل ليثبتوا وجودهم، ليجمعوا إعجابات، أو ليهاجموا من يخالفهم فقط لأن “الخلاف” صار تهديدًا للذات، لا فرصة للفهم.

الهدوء ليس ضعفًا

الاحترام في الحوار لا يعني التنازل، ولا يعني الصمت أمام الخطأ. لكنه يعني أن نناقش بوعي، وأن نُفرّق بين الشخص والفكرة، وأن نرفض الإساءة لا الرأي. الهدوء في النقاش قوة عقل لا ضعف موقف، واحترام المختلف لا ينتقص من كرامتنا، بل يرفع من قدرنا.
كم من جدال انتهى بخسارة علاقة جميلة، وكم من كلمة قاسية أطفأت دفء سنوات. كل هذا لأننا اخترنا أن نصرخ بدل أن نفكر، وأن ننتصر بدل أن نفهم.

إعادة الاعتبار للكلمة

لو عاد الاحترام إلى حواراتنا، لعاد معها الهدوء إلى قلوبنا. فالكلمة المحترمة لا تجرح، والنقاش الناضج لا يُفرّق، والاختلاف المحترم هو ما يصنع التقدم لا الفوضى.
الاحترام ليس مجاملة، بل ثقافة تربية ومسؤولية ووعي. وربما حان الوقت لنراجع أنفسنا:
هل نتحاور بعقولنا أم بأصواتنا؟
هل نناقش لنفهم، أم لنُثبت أننا على حق مهما كانت النتيجة؟
الاحترام في الحوار لم يمت، لكنه مريض يحتاج إلى علاج من ضجيج الغضب والأنانية وسرعة الأحكام.
فلنُعد للكلمة قيمتها، وللصوت معناه، وللحوار هيبته. فالأمم لا تنهض بالصراخ، بل بالعقول التي تعرف كيف تُصغي قبل أن تتكلم.

المزيد: رؤى مصطفى …السد المنيع والحصن الحصين (خط ولا كارت)

قد يعجبك ايضآ
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.