السقوط الهادئ للطبقة الوسطى: قراءة في فيلم الحب فوق هضبة الهرم

 

السقوط الهاديء .. يحتلّ فيلم «الحب فوق هضبة الهرم» (1986) موقعًا متقدّمًا في سجلّ السينما المصرية التي وثّقت اضطراب الثمانينيات، ذلك العقد الذي شهد تحوّلات اجتماعية واقتصادية عنيفة قلبت البناء الطبقي رأسًا على عقب. لم يكن الفيلم مجرد قصة عاطفية تنتهي بالفشل، بل كان بمثابة مرآة ضخمة تعكس انهيار الطبقة الوسطى وسقوط الأوهام الفكرية التي غذّت أجيالًا كاملة.

كتبت/ ماريان مكاريوس

 

من بين عناصر الفيلم المتعددة، تبرز شخصية عاطف هلال—التي جسّدها الفنان صلاح نظمي—كعلامة فارقة، لأنها لم تكن مجرد شخصية ثانوية، بل كانت رمزًا لفكرة، وصدىً لتحوّل تاريخي، ومفتاحًا ضروريًا لفهم ما جرى لذلك الجيل الذي عاش على أحلام كبيرة واصطدم بواقع قاسٍ لا يرحم.

 

عاطف هلال: المثقف الذي يبيع الوهم

قدّم عاطف الطيب شخصية عاطف هلال بوصفها نموذجًا للمفكر الذي يرسم طريق النجاة على الورق، ويدعو الشباب إلى التمسك بالأمل والعمل والحلم، بينما يعيش هو على هامش هذا الحلم. يراه علي عبد الستار، البطل، كأب روحي ومعلّم ومرشد، يسمع كلماته فيشعر أن الدنيا لا تزال قابلة للحياة، وأن الخلاص قد يكون قريبًا. لكن الطيب—بجرأته المألوفة—لا يترك هذا الوهم قائمًا طويلًا، فيدفع بالبطل إلى الاقتراب من نموذجه الفكري، ليكتشف الحقيقة المرّة: أن الرجل الذي يكتب عن المثل العليا لا يؤمن بها ولا يمارسها.

المشهد الذي يواجه فيه علي رمزه الفكري لحظة شديدة الوقع في السينما المصرية. ينظر الرجل الشاب إلى مثقفه المفضل ويراه يتهاوى أمامه، مجرد كاتب يلوّن الكلام ولا يعيش معناه. وهنا يطلق علي جملته الشهيرة التي تحوّلت إلى أيقونة نقدية:
«كلهم كدّابين… وعارفين إنهم كدّابين… وعارفين إننا عارفين إنهم كدّابين.»

لم تكن هذه الجملة اتهامًا لشخص واحد، بل كانت إدانة لجيلٍ من المثقفين الذين صنعوا شرعيتهم من الكلام، لا من الفعل. اتهمهم الفيلم بأنهم أسهموا—بوعي أو بغير وعي—في تضليل الشباب وبيعهم أوهامًا غير قابلة للتحقق.

السياق الاجتماعي: انهيار طبقة وصعود أخرى

فهم شخصية عاطف هلال يستلزم فهم اللحظة التاريخية التي خرج منها الفيلم. ففي الثمانينيات، تعرّضت الطبقة الوسطى المصرية لضغوط اقتصادية غير مسبوقة:

التضخم

ندرة فرص العمل

تدني الأجور

تقلّص الدور الاجتماعي للمؤسسات الثقافية والتعليمية

بات الشاب المتعلم—الذي كان قبل عشرين عامًا يجد طريقه طبيعيًا نحو عمل ومسكن وزواج—محاصرًا من كل الاتجاهات. بطل الفيلم، علي عبد الستار، ليس مجرد شخصية روائية، بل هو صورة صادقة لجيل كامل:

التعليم لم يعد سُلّم ترقٍّ اجتماعي.

الراتب لم يعد يكفي لفتح بيت.

الشقة صارت حلمًا بعيدًا لا يتحقق إلا بالمستحيل.

والزواج أصبح مشروعًا مؤجّلًا بلا نهاية.

لم يكن علي عاجزًا لأنه ضعيف، بل لأن النظام الاجتماعي والاقتصادي الجديد أغلق كل الأبواب أمام طبقته. لم يعد امتلاك المعرفة معيارًا للنجاح، بل صارت القوة—بمعناها العضلي والاقتصادي—هي الحاكم الذي يوزّع الفرص.

البروليتاريا الجديدة: قوة بلا مشروع فكري

من اللحظات اللافتة في الفيلم تصويره لصعود طبقة جديدةطبقة بروليتارية لا تعبّر عن العامل التقليدي بقدر ما تعبّر عن قوة صاعدة بلا مشروع فكري. هذه الطبقة تمسك بزمام الواقع عبر السيطرة المادية، لا عبر الإنتاج الثقافي أو الرؤية الاجتماعية.

يظهر هذا الصعود في تفاصيل صغيرة: نبرة الصوت، طريقة التعامل في الشارع، شكل السلطة الجديدة التي صار يمتلكها من يملك القوة لا من يملك العقل. في هذا المشهد الاجتماعي المزدحم، يصبح المثقف الزائف مثل عاطف هلال عنصرًا خطيرًا. فخطورته ليست في أفعاله المباشرة، بل في الوهم الذي يروّجه دون أن يملك القدرة أو الشجاعة على تجسيده في حياته.

 

دور عاطف الطيب: محاكمة ذاتية لحقبة ناصرية

يُحسب لعاطف الطيب شجاعته في أن يحاكم الأفكار التي آمن بها شخصيًا. فالطيب معروف بميوله الناصرية، لكنه في هذا الفيلم يمارس نقدًا عميقًا للمنظومة الفكرية التي خرجت من تجربة عبد الناصر. في المشهد الذي ينهار فيه عاطف هلال، يظهر إطار لصورة جمال عبد الناصر في الخلفية، ليس بوصفه رمزًا للبطولة، بل كإشارة ذكية إلى أن المشكلة بدأت من هنا: من الاعتماد على الشعارات الكبيرة دون القدرة على تحويلها إلى واقع يحمي الطبقة الوسطى ويضمن لها مستقبلًا ثابتًا.

الطيب لا يهدم ناصر، ولا يدين التجربة كلها، لكنه يقول:
هناك أفكار آمنت بها الأجيال ولم تختبر مدى واقعيتها، والآن—في الثمانينيات—يدفع جيل كامل ثمن هذه الفجوة بين الشعار والتطبيق.

الحب كضحية اجتماعية

رغم ما يبدو من عنوان الفيلم، فإن «الحب فوق هضبة الهرم» ليس فيلم حبّ بقدر ما هو فيلم عن العجز الاجتماعي. الحب هنا لا يفشل لأن العاشقين ضعيفان أو مترددان، بل لأنه لا توجد بنية اجتماعية تسمح له بالنجاح أصلًا. الظروف الاقتصادية والسياسية تصنع سياجًا خانقًا حول العاطفة، فتتحوّل العلاقة بين علي ورشا إلى مساحة قصيرة من الأمان، سرعان ما تخنقها الحاجة.

هنا، يصبح الحب نفسه ضحية طبقية، لا مجرد ضحية رواية. فلا بيت، ولا قدرة على الزواج، ولا مستقبل واضح، بل حلم صغير يتهدّم عند أول اصطدام مع الواقع.

 

بين الشخصية والرمز: لماذا يظل عاطف هلال مهمًا؟

تأتي أهمية شخصية عاطف هلال لأنها تمثل السقوط الأخلاقي والفكري الذي يسبق السقوط الاجتماعي. فالمجتمع لا ينهار فقط حين يفقر، بل حين يفقد رموزه القدرة على أن يكونوا نماذج حقيقية. حين يكذب المثقف، ويتخلى المفكر عن مسؤوليته، ويبدأ في بيع الكلام بدلًا من تقديم الحلول، تصبح الكارثة مضاعفة.

عاطف هلال ليس شريرًا، ولا فاسدًا بالمعنى التقليدي، لكنه أخطر: إنه يُريد أن يكون رمزًا دون أن يمتلك مقومات الرمز. وخطورته في أنّه يقدم للشباب حلمًا زائفًا، يجعل صدمتهم في الواقع أعنف وأقسى.

فيلم يتجاوز زمنه

بعد مرور عقود على إنتاج «الحب فوق هضبة الهرم»، لا يزال الفيلم حيًا، مؤثرًا، ومتصلاً بواقع اليوم. فالتصدّعات الطبقية ما زالت قائمة، والشعارات لا تزال تُرفع دون ضمانات، والمثقف ما زال يواجه امتحانًا عسيرًا بين التنظير والتطبيق.

لكن يبقى أهم ما يقدّمه الفيلم هو تذكير قاسٍ بأن الخطر الحقيقي ليس في الظلم… بل في الزيف: في أن تُبنى الأحلام على كلام، وتُعلّق الآمال على رموز تتهاوى عند أول اختبار. ومن أجل هذا المعنى العميق، يظل عاطف هلال واحدًا من أهم الشخصيات التي كشفت بجرأة أزمة المثقف المصري، وعرّت بألمٍ علاقة جيلٍ كامل بأحلامه الضائعة.

قد يعجبك ايضآ
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.