ابو طويله ….. بقلم / محمد فيض خالد

أبو طويلة

يكتبها : محمد فيض خالد

يبدو قويّا كغصنٍ شامخ مؤرِق ،
يَفوقُ أقرانه مُنذ كان صبيّا ،
يتبع خطوات أمه ،
شبّ وترعرع لا يعرف والده ،
يخفق قلبه في جزعٍ ،
كلّما تذكّر ،
سُرعَان ما يتلهى في كِسرةِ الفطير التي تخرجها الوالدة من تحتِ خمارها ،
ينزوي بجوارِ الحَائِط ،
والحُزن يحزّ قلبه الغَضّ حَزّا ،
يتنهد مِنْ صدرٍ ثقيل ،
يلقي على ذاكرتهِ سِتارا من الصَّمتِ ،
يعدو مأخوذًا كعادتهِ ،
بينَ الأزقةِ والدّروبِ ،
وأصوات النِّساء تتطاير لمقدمهِ :
يا أبو طويلة .. يا أبو طويلة ،
يجأر بالشَّكوى مُتَأفِّفا ،
يرفعُ رأسهُ مُتمِّتما في مرارةٍ ،
وقد تقلَّصت ملامحه ،
يبرطم مغضبا تحت وقعِ الالحاح ،
لحظات ويلين للنداءِ بعد لأيٍ ، تستهويه في الأخيرِ حبات البلح المحمّص التي تجودُ بهِ الأيدي ،
يتنقلُ من بيتٍ لبيتِ ،
يقضي حوائج النِّساء ،
لا يتحرّج من اقتحامِ الدُّور على أهلها دون عضاضةٍ ،
بعد إذ تعوّدوه ،
هو أبعد ما يكون عن كُلّ ريبةٍ ،
بابتسامةٍ بلهاء يضحك ملء شدقيهِ ،
حينَ تُداعب الأنامل ما بينَ فخذيهِ ،
وصرخات الإثارة تعلو في صخبٍ وفوضى ،
سُرعان ما يجتمع النّسوة في إثرهِ كبارا وصغارا ،
ليتَّخذوه هزوا ،
يرتجف صوته فَرَقا ،
ثم يطلق ساقيه للرِّيحِ ،
وقد انتَسَفَ لونه ،
ومن خَلفهِ يَتصايَح الصِّبية في ابتهاجٍ وزَعيق :
أبو طويلة .. أبو طويلة ،
يطوف الشّوارع يتابع رحلته اليومية في رتابةٍ ،
لكنّه رغم هذا لا يُعدم في تطوافهِ من الكلامِ المعسول ،
تلكَ سلواه التي تُشعِره بفحولتهِ المُبكرة ،
يطلق ضحكات بلهاء ،
مُنتشيا في خجلٍ مُصطنع ،
يُهرولُ يذرع البيوت هنا وهناك بلا تواني ،
غير أنّ في قلبِ صاحبنا صخرة لا تنفذها أشعة الحُب ،
مع أنّه في كثيرٍ من المراتٍ ،
ما يكون محطّ أطماع غِلاظ القلوب من النِّسوةِ المُجترءات ،
فمثله لا يبوح بسرٍّ ،
ولا تُخشى مطامعه ،
وتلكَ صفات قلّما توافرت لغيرهِ ،
ها هو الدّهر الغشوم ،
يضنُّ عليهِ بهنائتهِ ،
تتلاحق أرزاء الأيام قاسية ،
لتنتزع منه أمه ،
لم يتبقى منها إلا اثرها العافي ،
لصِيقا كدخانِ الموقد فوقَ حيِطانِ منزلها القديم ،
جعل يذوي ويسحب لونه ،
وشيئا فشيئا انقطعَ ” أبو طويلة ” عن لهوهِ وتسليتهِ ،
هجرَ تجمعات النّساء بعد أن ضاقَ ذرعا بمشاكستهم ،
ظَلّ على حالهِ يئنّ من أعماقِ قلبه،
في سكونٍ يجيل بصره في المحيطينِ بهِ ،
تبدو على وجههِ جهامة وانقباض ،
على فتراتٍ تُهيمن عليهِ نوبة نشيج ،
يقضي سحابة نهارهِ بعيدا عن البيتِ ،
حتى إذا أظلّه اللّيلِ عادَ كاسفَ البال ،
يُلقي بجسدهِ المُنهك أمام العتبةِ ،
هكذا حتى الصّباح ،
وفِي يومٍ صحا نهاره ، لكنّ ” أبو طويلة ” لم يستيقظ ،
قلّبته الأيادي في وجلٍ ،
ليجدوه جسدا مُسَجّى ،
ليُغيّب في سِجلِ النسيان .
قد يعجبك ايضآ
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.