العيد كما كنا نعرفه.. ذاكرة ترفض النسيان
في كل عام، يعود العيد محمّلًا بمزيج من الفرح والحنين، لكنه لم يعد يشبه ما كنا نعرفه. ما بين الأجيال التي استيقظت صباح العيد على صوت تكبيرات العيد ورائحة الكعك، وتلك التي تستقبل المناسبة بإشعارات من تطبيق “واتساب”، هناك ذاكرة جماعية تتغير، وربما تتآكل.
بقلم : هاني سليم
عيد الأمس.. حين كانت التفاصيل تصنع الفرح
جيل الثمانينيات والتسعينيات يعرف أن العيد لم يكن مجرد مناسبة دينية، بل كان حالة اجتماعية وثقافية متكاملة. نبدأ العيد قبل أيام من حلوله: تنظيف المنزل، شراء الملابس الجديدة، حياكة زينة الورق اليدوية، إعداد الكعك والغُريبة في جلسات عائلية تتخللها أحاديث وضحكات.
أما صباح العيد، فكان يحمل طقسًا لا يُنسى: استيقاظ باكر، تجهيز الملابس المكوية بعناية، صلاة العيد في ساحة المسجد، العودة لاستقبال الضيوف، ثم تبدأ مراسم العيدية: تلك الورقة النقدية التي تحمل قيمة رمزية أكثر منها مادية، تُعطى بحب وتُقبل بامتنان.
كانت العيدية لحظة مهيبة. لا تُرسل، بل تُمنح. لا تُكتب فيها كلمات، بل تُقال شفهيًا وجهاً لوجه، مرفقة بدعاء من القلب. ولها قيمة وجدانية لا تعادلها صور أو رموز رقمية.
العيد في العصر الرقمي.. السرعة تأكل الروح
اليوم، تغيّر المشهد كليًا. لا تكاد تتبدل خلفية شاشة الهاتف إلى “مبارك العيد” حتى تبدأ موجة من الرسائل الجاهزة. العيد أصبح إشعارًا، وتهنئته أصبحت نسخًا متكررة لا تختلف من صديق إلى قريب.
الطفل لم يعد ينتظر العيدية، بل ينتظر رصيد الألعاب أو “الفيزا الإلكترونية”. “اللمة” العائلية تحوّلت إلى “فيديو كول” أو رسالة صوتية. ملابس العيد تُشترى بكبسة زر، والزينة تُحمّل من الإنترنت على شكل فلتر أو صورة متحركة.
الأصعب أن كثيرًا من الأطفال لا يعرفون اليوم كيف تصنع كعكة العيد، ولا كيف كان صوت “شريط الكاسيت” وهو يعيد تشغيل أغنية “يا ليلة العيد” لأم كلثوم.
الحنين لا يعني الرفض.. بل التذكير
ليس الهدف من هذا المقال أن نذم الحداثة أو نترحم على الماضي باعتباره زمنًا مثاليًا. لكننا في خضم هذا التحول السريع، نخاطر بفقدان ذاكرة العيد الجماعية. الذكريات لا تُحفظ في التخزين السحابي، بل تُبنى في الجلسات، في الضحك، في العطر الذي يملأ الغرفة بعد صلاة العيد.
هناك فرق كبير بين أن تُرسل صورة “عيدكم مبارك” إلى مئة شخص، وبين أن تُهدي وردة حقيقية لصديق، أو تضع “عيدية” في يد طفل صغير وتشاهد وجهه يضيء.
بين جيلين.. حوار غير مكتمل
جيل اليوم لا يفتقر إلى الفرحة، لكنه يفتقر أحيانًا إلى الملامح الإنسانية للفرحة. والجيل القديم بدوره، بحاجة أن يدرك أن التكنولوجيا ليست عدوًا، بل وسيلة يمكن أن تحمل نفس الدفء إذا أحسنا استخدامها.
فلماذا لا نرسل تهنئة صوتية بصوتنا لا بملف جاهز؟ لماذا لا نصنع مع أطفالنا كعك العيد ولو لمرة واحدة؟ لماذا لا نستعيد بهجة العيد من خلال لقاء حقيقي لا رقمي؟
ذاكرة يجب أن تُروى.. لا تُنسى
ما نعيشه اليوم ليس خطأ، لكنه تحوّل. وواجبنا، كآباء ومربين وفنانين وكتّاب، أن نعيد للعيد بعضًا من ملامحه الأصيلة.
أن نحكي لأبنائنا كيف كنا ننتظر العيد أسبوعًا كاملًا، كيف كان الخال يتأنق ليزورنا ومعه “ظرف صغير”، كيف كانت “أغنية العيد” تُبث على التلفاز فنفرح بها أكثر من أي احتفال.
أن نقول لهم إن العيد ليس فقط صورة أو رسالة، بل لحظة لقاء حقيقي، صوت، عطر، ورق نقدي مطوي في اليد، وابتسامة صادقة بلا فلتر.