تأمّلات في دعاء سيدنا إبراهيم عليه السلام
تأمّلات في دعاء سيدنا إبراهيم عليه السلام
بقلم فضيلة الشيخ أحمد على تركى مدرس القرآن الكريم بالأزهر الشريف
قال تعالى فى سورة إبراهيم :
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَٰذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الْأَصْنَامَ (35)
تأملت في دعاء الخليل عليه السلام في سورة إبراهيم :
دعاء سيدنا إبراهيم
رَبِّ اجْعَلْ هَٰذَا الْبَلَدَ آمِنً
وهي دعوة يُرددها كل مُحب لبلده ولا مانع فنعمة الأمن من أعظم النعم ، بل إن الجنة نفسها لا يكتمل نعيمها إلا بالأمن :
ادخلوها بسلام آمنين .
وهم في الغُرفات آمنون .
لكن سيدنا إبراهيم لم يكن من أهل مكة وإن كان ترك أهله فيها وكان دعاؤه نابعاً من مشاعر دينية قبل أي دافع أو انتماء آخر .
والدين هو أساس الوطنية الصادقة ، والأهم من ذلك أنه لم يكتفِ بما نكتفي به نحن الآن حيث نردد جزءا من دعائه ونتجاهل أو ننسى أجزاء :
فقد دعا الله بأن يُجنّبه ويُبعده وذريته عن الشرك وعبادة الأصنام والإعراض عن منهج الله ، فمع هذه الكبائر لن يكون هناك أمن ولا أمان ولا استقرار ، وخصوصاً إذا كان وجود هذه الأصنام والقائمين عليها والمنتفعين بها والداعين لها سبباً في إضلال الناس وصرفهم عن الحق :
رب إنهن أضللن كثيرا من الناس
ومكة التي دعا لها سيدنا إبراهيم هي نفسها قد فقدت نعمة الأمن واستحقت العقوبة لمّا كفرت بالنعم وحادت عن طريق الله ، وغيرها أولى بالعقوبة بلا شك .
واقرءوا إن شئتم :
﴿وَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلࣰا قَرۡیَةࣰ كَانَتۡ ءَامِنَةࣰ مُّطمَئنَّةࣰ یَأۡتِیهَا رِزۡقُهَا رَغَدࣰا مِّن كُلِّ مَكَانࣲ فَكَفَرَتۡ بِأَنۡعُمِ ٱللَّهِ فَأَذَاقهَا ٱللَّهُ لِبَاسَ ٱلۡجُوعِ وَٱلۡخَوۡفِ بِمَا كَانُوا۟ یَصنعُونَ
النحل ١١٢
ومن عوامل استحقاق واستجلاب نعمة الأمن بكل صوره المعنوية والمادية الصلاة ، لذلك دعا سيدنا إبراهيم ربه أن يوفقه وذريته لإقامتها ، وهي أهم مظهر للصلة بالله سبحانه .
وبواقعية ووعي بأثر الرزق والماديات في إعانة الناس على العبادة ، وبإدراك منه عليه السلام لعوامل الاستقرار المختلفة ، دعا أيضاً لهم بالغنى والوفرة :
وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون
إلى غير ذلك من الأدعية التي تفيض شكراً وعرفاناً وتوكلاً وإيماناً ، وبخضوع وخشوع يتكرر فيه كلمة : رب – ربنا .
شيء آخر استفدته من كلام أهل بلاغة القرآن وهو أن دعوة سيدنا إبراهيم عليه السلام جاءت في سورة البقرة بقوله :
رب اجعل هذا بلداً آمنا
بتنكير بلد ، وهنا
رب اجعل هذا البلد آمنا
معرفة ، وسر ذلك أن الدعوة الأولى تطلب شيئين معاً :
أن يكون المكان الذي نزل به بلداً وأن يكون آمنا فهو طلب البلدية بمعنى أن يكون المكان صالحاً للعيش والإقامة أو مقومات الدولة .
كما نقول في عصرنا وطلب لها الأمان ، ثم كرر الدعاء في المرة الثانية في الآية الثانية بطلب الأمان فقط وتأكيد استدامته ، بعد أن تحققت لها صفة البلدية من قبل .
كما أن بلد نكرة في الدعاء الأول لأن الدعاء كان في أول وصوله إلى المكان ، وفي المرة الثانية جعلها معرفة بعد أن عاينها وعرفها .
والله أعلم .