خضرة محمد خضر: رحلة صوت شعبي مصري من الريف إلى أضواء المدينة
كتبت / غادة العليمي
خضرة محمد... يمتلئ التراث المصري بألوان متعددة من الإبداع في شتى أنواع الفنون؛ منها الكلاسيكي، والشعبي، والجماهيري. وقد أسهم امتزاج هذه الفنون في خلق ثراء فني كبير، شكّل هوية المصريين منذ فجر التاريخ وحتى يومنا هذا. ومن بين هذه الألوان يبرز الفن الفلكلوري، الذي تميّز بعفويته وبساطته وقدرته على الوصول إلى القلوب والوجدان.
ومن أبرز الأصوات التي جسّدت هذا الفن، الصوت المصري الأصيل للفنانة الشعبية خضرة محمد خضر، التي اشتُق اسمها من بيئتها المصرية الخالصة، وامتزج صوتها بملح الأرض وهموم الفلاحين. وللمصادفة الحزينة، في مثل هذا اليوم فارقت دنيانا، لكن صوتها لا يزال يتردد من حولنا، حاملاً وجع الفلاحين، وحِكمة الجدات، وعِبر الحكايات، تاركًا بصمة لا تُمحى في تاريخ الغناء الشعبي المصري.
فما هي حكاية خضرة محمد خضر؟ وكيف خرجت من قلب الريف إلى كاسيتات المدن، وحفلات الأثرياء، وأضواء الشهرة؟
نبذة عن خضرة محمد خضر
وُلدت خضرة محمد خضر في 28 يناير عام 1918 بقرية كوم حمادة بمحافظة البحيرة، ونشأت في بيئة ريفية بسيطة، حيث كانت الحكايات والمواويل وسيلة التسلية لأهل القرية. وكان الموال والأغنية جزءًا أصيلًا من الحياة اليومية، متنفسًا للترفيه في ظل بيئة شاقة وفقيرة.
امتلكت خضرة صوتًا قويًا ونادرًا، يشبه هدير السواقي وشدو الطيور المغردة، صوتًا بدا كأنه جزء من الأرض نفسها، يحمل معاناة الفلاح، وهمومه، وفرحته، وحكمته، ورضاه، وأحلامه، وحتى اعتراضاته. وهو ما جذب انتباه الباحث الكبير في التراث الشعبي المصري زكريا الحجاوي، أحد أهم جامعي الفلكلور المصري في القرن العشرين، والذي اكتشف العديد من الأصوات والألوان الفنية المميزة.
رحلة صعود خضرة محمد خضر
آمن زكريا الحجاوي بالصوت المميز والأداء الفريد لخضرة محمد خضر، فدعمها وساندها، ولم يكتفِ بتقديمها للجمهور فحسب، بل تزوجها عام 1961، ليشكّلا معًا ثنائيًا فريدًا وناجحًا في مشروع الحفاظ على التراث الغنائي الشعبي الفلكلوري.
وحتى بعد انفصالهما عام 1963، واصلت خضرة مسيرتها الفنية بثبات، وعرفت طريقها جيدًا، واستمرت تشدو بأغنياتها، ليظل صوتها حاضرًا، والعالم مستمرًا في الاستماع إليها.
أهم أعمال خضرة محمد خضر
قدّمت خضرة محمد خضر العديد من الأعمال الفلكلورية الناجحة، من أبرزها ملحمة «أيوب وناعسة»، وهي نص غنائي شعبي يُعد من أهم ما قدّمته، من تأليف زكريا الحجاوي، وشاركتها الغناء فيه الفنانة فاطمة عيد. وقدّمتا معًا حكاية غنائية طويلة جسّدت فلسفة الصبر في مواجهة البلاء، والرضا بالقضاء.
وعكست خضرة بصوتها معاناة البسطاء، وإيمانهم بأن الصبر مفتاح الفرج، وأن الشدّة مهما طالت لا بد أن تنقضي، فكانت أغنياتها بلسمًا للمتعبين، وراحةً للمبتلين وأصحاب الحاجات.
تميّزت خضرة بصوتها الدافئ المريح، وبقدرتها النادرة على تحويل الأمثال والحِكم الشعبية إلى أغنيات خالدة تُرددها الألسن، ومن أشهر ما غنّت:
- «متى أشوفك يا قلبي أطمن»
- «يا مسعد يا اللي تصلي على النبي»
- «الصبر طيب… للأمارة يصبروا»
- «ياما اللي كان صابر ينول المغفرة»
- «ياما جرى لأيوب على حكم الزمن»
- «وادي بنت عمه على البلاوي صابرة»
وكان صوتها يعرف طريقه سريعًا إلى القلوب، خاصة في الريف والمناطق الشعبية البسيطة.
بعد مسيرة طويلة من الغناء، رحل الصوت الطيب حين غادرت خضرة محمد خضر دنيانا في 17 ديسمبر عام 1998، عن عمر ناهز 80 عامًا. لكنها تركت خلفها إرثًا غنائيًا ثريًا من المواويل والحكايات، لا يزال حيًا في الأسواق الشعبية، ويتردد حتى اليوم، ويُعاد غناؤه على ألسنة كثير من نجوم الغناء الشعبي المعاصرين.
ستظل خضرة محمد خضر هي الأصل، والعلامة الطيبة، والاسم الراسخ في تاريخ الغناء الشعبي المصري.
رحمها الله رحمة واسعة.




