عاطف الطيب… من “الطالب السارح” إلى مؤسس الواقعية الجديدة
عاطف الطيب .. في ركنٍ من أركان معهد السينما في القاهرة، كان يجلس مخرج كبير، هو صلاح أبو سيف، الأب الروحي للواقعية في السينما المصرية، يراقب طلابه بعين المعلّم والخبير. من بينهم، لفت انتباهه شاب نحيف الملامح، شارد النظرات، يبدو كأنه لا ينتمي إلى المكان.
كتبت: ماريان مكاريوس
كان دائم السرحان، كثير الشرود، كأنما يحمل داخله سؤالًا لم يجد له جوابًا بعد. وصفه أبو سيف لاحقًا بأنه طالب “تايه، وعلى طول سرحان”، لم يكن يتوقع له شيئًا يُذكر، لا كمخرج، ولا حتى كخريج.
أعمدة السينما المصرية
لكن ما لم يتوقعه أبو سيف، هو أن هذا الشاب السارح، المتواضع في تحصيله، سيغدو فيما بعد أحد أعمدة السينما المصرية في ثمانينيات وتسعينيات القرن العشرين. بل سيكون هو الرجل الذي يعيد إحياء الواقعية على الشاشة، بأسلوب جديد، أكثر حدّة، أكثر قربًا من الوجع الشعبي، وأكثر صراحة في نقد السلطة والفساد. كان هذا الشاب هو عاطف الطيب.
حين شاهد صلاح أبو سيف فيلم “سواق الأتوبيس” (1982)، أصيب بما وصفه بـ”الصدمة”. لم يكن يتوقع من تلميذه السابق أن يمتلك هذا الحس الجمالي، وهذه القوة في تشكيل الصورة، وهذا التماسك في البناء الدرامي. رأى في الفيلم روحًا صادقة لا يمكن صناعتها، بل تنبع من عمق المعاناة الحقيقية. وفيما بعد، اعترف أبو سيف قائلاً: “اتعلمت إني محكّمش على مخرج من عمل واحد، لكن من مجموعة أعمال… وفي الحقيقة عاطف الطيب كان بيبهرني من فيلم للتاني.” و يعتيبر تلميذه في مدرسة الواقعية الجديدة.
إقرأ ايضا: منصة «إنفستجيت» تستكشف آفاقاً جديدة في الاستثمار العقاري
المولد والنشأة
ولد عاطف الطيب في سوهاج عام 1947، وعاش طفولة بسيطة تنتمي إلى بيئة صعيدية صارمة، وهو ما زرع داخله إحساسًا مبكرًا بالعدالة والكرامة. التحق بمعهد السينما وتخرج عام 1970، ثم عمل كمساعد مخرج مع كبار السينمائيين، منهم شادي عبد السلام ويوسف شاهين. ظل في الظل، يتعلّم ويتأمل، حتى أتيحت له الفرصة لإخراج أول أفلامه: “سواق الأتوبيس”.
“سواق الأتوبيس” لم يكن مجرّد فيلم، بل صرخة احتجاج ضد الصمت،ضد نزوح الفضلات من القاع و واستقرارها علي السطح، ضد الطبقية، وضد التفكك الاجتماعي بعد الانفتاح الاقتصادي في السبعينيات. جسّد فيه الطيب الصراع بين الواجب والواقع، بين الأخلاق المتوارثة وتحولات العصر الجارفة. بواقعية فنية شديدة، صوّر تفاصيل الحياة اليومية، وطرح أسئلة وجودية حول معنى الرجولة والواجب والهوية. لذلك لم يكن مفاجئًا أن يُدرج الفيلم لاحقًا في المركز الثامن ضمن قائمة أفضل 100 فيلم في تاريخ السينما المصرية.
ملامح أعماله
ما يميز عاطف الطيب ليس فقط قدرته على توصيل الوجع الشعبي، بل أيضًا إخلاصه العميق للفن بوصفه موقفًا أخلاقيًا. لم يكن مخرجًا محايدًا، بل صاحب موقف منحاز دائمًا للمظلوم، للفقير، للعامل البسيط، للإنسان المكافح في وجه سلطة غاشمة أو فساد مستشرٍ. أفلامه كانت تعبيرًا صادقًا عن انحياز اجتماعي لا يخجل منه، بل يعلنه بفخر. قال ذات مرة: “أنا مش مخرج بيحكي حكايات… أنا واحد شايف وجع الناس وعايز أقوله بصوت عالي.”
اقرغ أيضا: الإدارة الأمريكية تعلن وقف الحرب المدمرة فى الشرق الاوسط “اسرائيل وايران”
في “البريء” (1986)، قدم واحدة من أقوى صور القهر المؤسسي، عبر شخصية المجند البسيط الذي يُدرب على الطاعة العمياء حتى يجد نفسه أمام معتقل سياسي بريء، فينهار العالم من حوله. الفيلم الذي مُنع لسنوات طويلة، ظل رمزًا لنقد النظام الأمني وتغوّل الدولة.
وفي “الحب فوق هضبة الهرم” (1986)، كشف عن المأزق العاطفي والجنسي والاجتماعي لجيل من الشباب الذي يبحث فقط عن فرصة للزواج و تكوين اسرة، في مجتمع يعاقب الفقراء على أحلامهم الصغيرة. وفي “ضد الحكومة” (1992)، قدم لأحمد زكي الدور الأشهر في حياته كمحامٍ انتهازي ينقلب إلى بطل شعبي، في لحظة كشف أخلاقي، حين يقول جملته الخالدة في المحكمة: “كلنا فاسدون… لا أستثني أحدًا.”
كون شركة إنتاج بالشراكة مع المخرج محمد خان و الكاتب و السيناريست بشير الديك سميت بشركة “أفلام الصحبة”
بالإضافة إلى سعيد شيمي، نادية شكري، خيري بشارة، وداوود عبد السيد.
أبرز أعمال “أفلام الصحبة”
فيلم “الحريف” (1984) هو العمل الوحيد الذي أنتجته المجموعة، وهو فيلم سينمائي من بطولة عادل إمام، كتب السيناريو بشير الديك وأخرجه محمد خان.
شكّلت كـ”رابطة فنية” تربطها صداقة عميقة وهموم مشتركة تجاه الفن. كانت فلسفتهم إنتاج أفلام ذات رؤية جديدة، ذات مستوى فني راقٍ، تعكس قضية مجتمعهم بأمانة وواقعية .
اما بشير الديك نصير الواقعية، تعاون مع عاطف الطيب ومحمد خان في 7 أعمال أهمها “سواق الأتوبيس”، “ضربة معلم”، “ضد الحكومة” و”ليلة ساخنة” .
دخل عاطف الطيب في هذه الرابطة كجزء من مشروع رمزي يعكس التزامه بقضايا المواطنين، تعاون مع بشير الديك في أعمال عديدة، لكن ارتباطه الجماعي لم يتجاوز إنتاج “الحريف”.
مشروع ابداعي جماعي
باختصار، “أفلام الصحبة” لم تكن مجرد شركة، بل مشروع إبداعي جماعي يصبّ في خانة الواقعية الاجتماعية.
أعمال الطيب لم تكن فقط سينما، بل محاضر اجتماعية، ووثائق سياسية، وأناشيد حزن وغضب. جمع بين الدراما والصدق، بين الجمال الفني والواقعية الجارحة، واستطاع أن يكون “ضمير السينما المصرية”، في وقت اختلطت فيه الأصوات، وتشوهت فيه الصورة.
رحيله
تحل هذا العام ذكراه الثلاثون. فقد رحل عاطف الطيب في الثالث و العشرون من يونيو عام 1995، عن عمر لا يتجاوز 47 عامًا، بعد أن ترك خلفه إرثًا من 21 فيلمًا، كثير منها دخل ضمن قائمة أهم أفلام السينما المصرية. ثلاثة من أفلامه – “سواق الأتوبيس”، و”البرئ”، و”ضد الحكومة” – دخلت قائمة أفضل 100 فيلم، ليؤكد حضوره الفني والتاريخي في الوجدان المصري.
ربما لو عاش أكثر، لكانت سينما الطيب اليوم مدرسة مستقلة لها طلابها، لكن ما أنجزه خلال عقد ونصف فقط، كان كافيًا ليمنحه مكانة خالدة.
إن قصة عاطف الطيب تبدأ من “طالب سارح” على مقاعد معهد السينما، وتنتهي بمخرج عبقري يغيّر معايير السينما الواقعية في مصر. وما بين البداية والنهاية، توجد رحلة فنية وإنسانية نادرة، كتب فصولها بالإخلاص، ووجع القلب، ودم الحارة المصرية. عاطف الطيب لم يكن مخرجًا فقط، بل كان صوت الناس.
صوت لا يزال يتردد، رغم رحيله.