عزيزة أمير.. “أم السينما” التي أنجبت أول فيلم مصري”ليلى”

رائدة الفن السابع وتكلفة الحلم: عزيزة أمير وفيلم “ليلى” – الملحمة التأسيسية للسينما المصرية الصامتة

كتب باهر رجب

في قلب تاريخ الفنون المصرية، تقف شخصية عزيزة أمير كرمز للريادة والتضحية، حيث لم تكن مجرد فنانة، بل مؤسسة لصناعة السينما في مصر. بصفتها ناقدا ثقافيا و مؤرخا سينمائيا متخصصا في بدايات السينما المصرية، يسعدني أن أقدم هذا التحليل التاريخي والسيرة الذاتية المفصلة عن الفنانة عزيزة أمير (أم السينما المصرية)، وعملها التأسيسي الخالد، فيلم “ليلى” عام 1927. إن قصة عزيزة أمير ليست مجرد سيرة لفنانة، بل هي وثيقة حية عن صراع المرأة المصرية من أجل الريادة الفنية والتحرر الاجتماعي في مطلع القرن العشرين.

أولا: اللحظة التأسيسية: السادس عشر من نوفمبر 1927 وميلاد الفن السابع المصري

مسرح متروبول والشاهد التاريخي: الليلة التي ولدت فيها السينما الوطنية

في السادس عشر من نوفمبر عام 1927، سجلت مدينة القاهرة لحظة ثقافية وتاريخية حاسمة، حيث عرض فيلم “ليلى” في دار عرض “متروبول”. لم يكن هذا العرض مجرد فعالية فنية عابرة، بل كان الإعلان الرسمي عن ميلاد صناعة السينما المصرية بإنتاج وتمثيل وإخراج وطني خالص. وقد تحول موقع هذه الدار التاريخية لاحقا ليصبح “مسرح عبد المنعم مدبولي بالعتبة”، ليبقى شاهدا على الانطلاقة الأولى للمشروع السينمائي الريادي.

تعد هذه الليلة نقطة تحول كبرى، حيث تجرأت عزيزة أمير على خوض مجال الإنتاج السينمائي الطويل، وهو مجال كان حكرا على الرجال أو مشاريع الأجانب. وقد نالت هذه الشجاعة اعترافا من القمة الثقافية المصرية، إذ حضر الافتتاح أمير الشعراء أحمد شوقي، الذي وجه إشادة تاريخية لعزيزة أمير تجاوزت قيمتها الفنية إلى القيمة الاجتماعية و التحررية، بقوله الشهير: “فعلتي ما عجز الرجال عن فعله“.

إن الأهمية العميقة لإشادة شوقي لا تكمن في الإثناء على الجودة التقنية للفيلم الصامت، بقدر ما هي تصديق اجتماعي على ريادة عزيزة أمير في تجاوز حاجز اجتماعي هائل. فالمجتمع المصري في العشرينات كان ينظر إلى عمل المرأة في السينما بصفته أمرا معيبا و مقيدا بالتقاليد. هذه الشهادة من رمز قومي منح عزيزة أمير و مشروعها اعترافا اجتماعيا ووضعتها في مصاف المنجزين الذين يكسرون القيود الاجتماعية الجامدة.

 

 

الإنتاج المتأرجح والبحث عن هوية وطنية: من “نداء الله” إلى “ليلى”

كان فيلم “ليلى” نتاجا لعملية إنتاج مضطربة ومعقدة، بدأت في الواقع بفكرة متعثرة. فالبداية كانت في عام 1926، عندما بدأ الفيلم في فصلين باسم “نداء الله” أو “نداء الرب”، من إخراج وتمثيل التركي وداد عرفي، الذي كان قد أقنع عزيزة أمير بالنزول إلى ميدان الإنتاج. واجهت هذه النسخة من العمل “سقوطا مريعا” عند عرضها.

أدركت عزيزة أمير، كمنتجة تسعى لرسملة حلمها، أن المشروع بحاجة إلى جذور مصرية خالصة لتصمد أمام الجمهور الناقد، وربما كان هذا الفشل المالي هو أول موقف مالي حاسم دفعها للسيطرة الكاملة على العمل. فقامت بالتدخل الريادي، و ألغت دور وداد عرفي، و أسندت دور البطولة الرجالية إلى الفنان أحمد علام، ليسجل اسمه بوصفه “أول فتى أول في تاريخ السينما المصرية”. ثم أعيد إخراج الفيلم في خمسة فصول بالاسم الجديد “ليلى”. وتولى الإخراج النهائي خليط من الخبرات: إستيفان روستي (الذي شارك في التمثيل أيضا) و أحمد جلال وحسين فوزي، بمشاركة المصور الإيطالي تيليو كياريني. وقد تم تصوير المشاهد الخارجية في مواقع مصرية أصيلة بين الأهرامات و سقارة وشوارع القاهرة.

كما إن عملية “التوطين” القسري للفيلم، التي شملت إزالة النفوذ التركي المباشر واستبداله بطاقم مصري، حتى لو اعتمد على خبرات فنية أجنبية مساعدة (روستي و كياريني)، تؤكد أن مشروع ليلى لم يكن مجرد مغامرة فنية، بل كان لحظة حاسمة لتأكيد الهوية المصرية للسينما، والابتعاد عن الهيمنة الأجنبية. هذا الوعي الوطني هو ما رسخ مكانة عزيزة أمير كـ “مؤسسة السينما الوطنية”.

الجمالية الصامتة: صراع المسرح والكاميرا

بالنظر إلى طبيعة الفيلم الصامت، كان الأداء يعكس تحديات المرحلة الانتقالية. فقد كان التمثيل في تلك المرحلة “مسرحي قوي” و “مبالغ فيه”. هذا النمط من الأداء، الذي اعتمدت عليه عزيزة أمير و زملائها مثل آسيا داغر و إستيفان روستي، كان موروثا من تجاربهم المسرحية، حيث يتطلب المسرح المبالغة في الحركة والتعبير و الإيماءات والمكياج ليتمكن المتفرج البعيد من رؤية المشاعر.

مع ذلك، لم يكن هذا النمط مناسبا بالضرورة للغة السينما، إذ أن “الكاميرا بتوضح التفاصيل أكثر من المسرح”. في غياب الحوار المسموع، كانت الموسيقى هي “البطل الأساسي في التعبير”، إذ كانت تتولى مهمة التعبير عن المشاعر والمواقف التي تعجز عنها اللوحات المكتوبة (Intertitles). هذا الصراع بين تقنيات الأداء المسرحي والحاجة إلى النعومة السينمائية ظل تحديا كبيرا لعزيزة أمير ونجوم جيلها عند الانتقال لاحقا إلى الأفلام الناطقة.

ثانيا: السيرة الذاتية الكبرى: مفيدة محمد غانم تتحول إلى عزيزة أمير

الميلاد والنشأة تحت جناح القدر والتباين الطبقي

اسمها الحقيقي الذي لم يذع شهرته هو مفيدة محمد غانم. تتضارب بعض المصادر حول نشأتها المبكرة، حيث تذكر إحداها أنها ولدت في الإسكندرية، بينما تذكر أخرى أنها ولدت في طنطا، في ديسمبر عام 1901. الثابت أنها عاشت طفولة صعبة ويتم مبكر، فقد توفي والدها بعد ولادتها بخمسة عشر يوما فقط.

انتقلت العائلة من الإسكندرية إلى القاهرة، حيث استقرت في منطقة السيدة زينب، وتحديدا في شارع خيرت. هذا الموقع وضع الفتاة اليتيمة في تماس مبكر مع المناخ الفني النابض بالحياة، حيث كان شارع خيرت متصلا بشارع محمد علي، ومعروفا بالمقاهي والحانات والملاهي الليلية. وعلى الرغم من أنها لم تكمل تعليمها المدرسي، إلا أنها سعت إلى تثقيف نفسها، فتعلمت مبادئ الموسيقى (رغبة منها في أن تصبح موسيقية) وتعلمت اللغة الفرنسية.

كان شغفها بالفن السينمائي أمرا سريا في البداية؛ فقد كانت تجد متعة في تقليد الممثلات أمام المرآة، بينما يسخر إخوتها مما كانوا يعتبرونه جنونا. وكان هذا الميل السينمائي المكبوت يدفعها لشراء صور نجمات هوليوود، مثل ليليان جيش و بيرل هويت وماري بيكفورد. كانت تخفي هذه الصور في طيات كتاب “القراءة الرشيدة”. يمثل هذا التصرف ازدواجية العصر؛ سعي المرأة المصرية نحو التحرر الفني والثقافي المستلهم من الغرب، بينما تعيش تحت ضغط الحفاظ على المظهر الاجتماعي المحافظ، وهو ما يفسر كيف كانت عزيزة أمير قادرة على التوفيق بين الأصالة المصرية والرغبة في الحداثة.

 

الزواج التعيس والدعم السياسي الغامض: الفترة المجهولة

مرت مفيدة غانم بفترة مبكرة ظلت “مجهولة” قبل دخولها مسرح رمسيس. كل ما كشفته السجلات هو أنها عاشت “زواجا تعيسا” اضطرها للهروب من زوجها والزواج واللجوء إلى القاهرة. هذا الهروب، الذي كان بدافع ذاتي للبحث عن الاستقلالية، كان الدافع الأول للاندفاع نحو الفن.

لاحقا، نشأت عزيزة تحت رعاية شخصية سياسية معروفة، قيل إنه تزوجها لفترة قصيرة نظرا لفرق السن الكبير بينهما. الأهم من العلاقة الزوجية هو دور هذا الرجل، الذي اهتم بـ “تعليمها و تثقيفها” و اصطحبها معه في أسفار إلى أوروبا. هذا السفر ساعد على اتساع مداركها و أفق تفكيرها، فأحبت الأدب والفن وترددت على المسارح و استوديوهات السينما. في مجتمع العشرينات، كان الدعم من شخصية مرموقة يعد بمثابة “المفتاح الذهبي” الذي مكن امرأة ذات أصول بسيطة من صقل مداركها والانتقال إلى مجتمعات النخبة، وهو أمر ضروري لمن تطمح للإنتاج السينمائي الذي يتطلب علاقات واسعة و تمويلا ضخما.

ثالثا: البدايات المهنية والمواقف المؤثرة: تحديات المسرح والانتقال للسينما

الانطلاقة من رمسيس: ولادة “عزيزة أمير”

دخلت مفيدة محمد غانم إلى الفن من باب المسرح. انضمت إلى فرقة رمسيس المسرحية التي ترأسها يوسف وهبي في صيف 1925. وهناك، أطلق عليها وهبي اسما مستعارا هو الاسم الذي اشتهرت به لاحقا: “عزيزة أمير”.

كما حققت عزيزة نجاحا فوريا، مدفوعا بجمالها الخاص وأناقتها ورقة صوتها الذي كان “يأسر القلوب”. أصبحت عزيزة أمير حديث المجتمع الفني، و تقاضت في أول أعمالها، مسرحية “الجاه المزيف“، 30 جنيها كراتب شهري، وهو ما كان يعد “أعلى أجر تحصل عليه ممثلة” في ذلك الوقت. وقد استمر عرض هذه الرواية مدة قياسية بلغت خمسة شهور كاملة.

 

الصراع النسائي والموقف المصيري الدافع نحو الاستقلال

لم تستمر عزيزة أمير مع فرقة رمسيس سوى موسم واحد. اضطرت لترك الفرقة بسبب موقف مؤثر، ليس لخلاف فني، بل بسبب الغيرة الحادة من زوجة يوسف وهبي، التي “اقتحمت المسرح ذات ليلة مهددة بقتل عزيزة!”.

كان هذا الموقف العنيف و المهدد للحياة بمثابة السبب المباشر الذي دفع عزيزة أمير نحو الاستقلالية الكاملة، وهو ما مهد لولادتها كمنتجة. قررت عزيزة إنشاء فرقة مسرحية خاصة بها، وسافرت إلى أوروبا لشراء مناظر ومعدات للمسرح. ورغم فشل هذه المحاولة في نهاية الأمر، فقد تنقلت بين فرق مختلفة، فانضمت إلى فرقة الريحاني (التي انحلت بعد أربعة أسابيع)، ثم إلى فرقة “تياترو الأزبكية“.

 

الزواج الاستراتيجي والتمويل السينمائي

حيث من خلال عملها في مسرح الأزبكية (فبراير 1927)، تعرفت عزيزة أمير على الوجيه أحمد الشريعي، و أعلنت زواجها منه في أبريل من العام نفسه. كان هذا الزواج في مرحلة كانت عزيزة “بأمس الحاجة إلى شريك تأتمنه على حلمها“، بالإضافة إلى حاجتها لصد الحملات الإعلامية التي كانت تشن عليها في الصحف والمجلات.

لم يكن الشريعي مجرد زوج، بل كان الشريك الذي حول الحلم إلى حقيقة. لعبت ثروة الشريعي ودعمه المادي والمعنوي دورا رئيسيا في صناعة فيلم “ليلى”، الذي لولا مساندته ما استطاعت عزيزة أمير أن تنجزه. إن هذا الزواج يمثل الدعامة الاقتصادية التي مكنت رؤيتها الإنتاجية من أن ترى النور.

رابعا: ريادة الإنتاج والتضحية الاقتصادية: ضريبة الفن السابع

تأسيس شركة “إيزيس” والمخاطرة المالية

بمجرد تأمين الدعم المالي، أسست عزيزة أمير شركتها السينمائية الخاصة تحت اسم “إيزيس“. كانت هذه الخطوة الجريئة تمثل بداية ريادتها كمنتجة ومؤلفة سيناريو (حيث شاركت في سيناريو فيلم ليلى وبنت النيل 1929). لقد كانت أول سيدة مصرية تخوض هذا الميدان الشاق، فلقبها النقاد بـ “أم السينما المصرية“.

 

الخسارة الكبرى: بيع عمارة جاردن سيتي والتضحية الشخصية

لم يكن طريق الريادة مفروشا بالورود. فقد واجهت عزيزة أمير انتكاسات مالية بعد إنتاجها لفيلم “ليلى” وبعض الأعمال اللاحقة. كشفت مذكراتها أن أحد أفلامها واجه إقبالا “خفيفا للغاية” وعجزت عزيزة أمير عن سداد ديونها من الإيرادات.

في موقف يظهر العمق الحقيقي لتفانيها، اضطرت عزيزة أمير إلى “بيع العمارة التي تملكها في جاردن سيتي” لتغطية خسارتها المادية. هذا الفعل يوضح التزامها غير المشروط بالصناعة، فقد وضعت ثروتها الشخصية على المحك من أجل الفن، مما جعلها “ضحية أضواء السينما” كما وصفها رثاء زكي طليمات. هذه التضحية الاقتصادية هي المحور الذي ميزها عن زملائها، وجعل خسارتها المادية دليلا ماديا على إخلاصها الجنوني للفن، وليس مجرد فشل تجاري.

 

إجازة إجبارية ومرونة العودة للمسرح

بعد الخسارة المالية القاسية، أخذت عزيزة “إجازة إجبارية” من السينما. وخلال فترة ابتعادها عن الأضواء السينمائية، عادت عزيزة إلى أحضان المسرح الذي كان يمثل ملاذها الآمن. عادت إلى فرقة رمسيس وشاركت يوسف وهبي بطولة “البكائيات”، ثم انضمت إلى فرقة نجيب الريحاني، وكانت بطلة لأغلب رواياته الدرامية في تلك الفترة، حتى اختارها الريحاني بطلة لفيلمه القديم الناجح “بسلامته عاوز يتجوز“. يدل هذا التنقل والعودة إلى المسرح أثناء الأزمات المالية على مرونة عالية وحس عملي لدى عزيزة أمير لضمان بقائها في دائرة الضوء الفني وتوفير التمويل اللازم لمشاريعها السينمائية اللاحقة.

 

خامسا: الإرث الفني والأسلوب: أم السينما وصاحبة الرسالة

ألقابها وأسلوبها الفني

اكتسبت عزيزة أمير لقب “أم السينما المصرية” لكونها أول سيدة مصرية تمثل وتنتج وتساهم في كتابة السيناريو. كانت ترفض التقليد الأعمى للأعمال الأجنبية، بل اعتمدت أفلامها على “قصص حديثة بنكهة مصرية خالصة تعكس صورة البيئة والمجتمع المصري”.

أما عن شكلها وملابسها وأسلوبها في الحوار، فقد تميزت عزيزة أمير بجمالها الجذاب و أناقتها المفرطة التي أثارت ضجة عند ظهورها المسرحي والسينمائي. استخدمت أناقتها ومظهرها العصري كأداة لتمثيل المرأة المصرية المتحررة التي تسعى للاستقلال، مما ساعدها على “تجاوز عقبات رهيبة” فرضتها الأعراف الاجتماعية في ذلك العصر.

 

أبرز أعمالها الفنية والالتزام الوطني

شملت مسيرة عزيزة أمير الفنية عددا من الأفلام الهامة بعد مرحلة الصامت، مثل: “كفري عن خطاياك“، “بائع التفاح“، “أمنت بالله“، “نجمة الوادي“، “الورشة” (عام 1940)، “نعمة“، “ابن البلد“، “المال“، “ليلة الزفاف“، “نادية“، و “طاقية الإخفاء“.

من أهم المواقف التي أثرت في حياتها وأعمالها هو إيمانها بالقضايا الوطنية والقومية. ويتجلى هذا الالتزام في إنتاجها لفيلم “فتاة من فلسطين” عام 1948. إن اختيارها لإنتاج فيلم يخدم القضية الفلسطينية في عام الحرب (1948) لم يكن عملا تجاريا عاديا، بل كان دليلا قويا على قناعاتها السياسية و طموحها لاستغلال الفن السابع في دعم القضايا القومية، مما يرسخ مكانتها كفنانة ملتزمة بقضايا وطنها و أمتها.

 

حكاية دور اعتذرت عنه أو ذهب لغيرها

على الرغم من ريادتها، لم تكن عزيزة أمير محصنة ضد خيارات المنتجين والمخرجين. كانت عزيزة بطلة مسرحية “أولاد الذوات” مع يوسف وهبي، وكانت مرشحة بقوة لتمثيل دورها في النسخة السينمائية، إلا أن الدور قد ذهب في نهاية المطاف إلى الفنانة أمينة رزق.

يشير هذا الموقف إلى أن عزيزة أمير بدأت تخسر بعض الأدوار الدرامية المعقدة في السينما الناطقة، ربما لأن صناع السينما كانوا يبحثون عن أسلوب تمثيل أقل مسرحية وأكثر واقعية بعد التحول إلى الأفلام الناطقة، أو ربما كانت الخلافات السابقة مع وهبي قد أثرت على خياراته الإنتاجية اللاحقة.

 

إصرار حتى الرمق الأخير (الموقف العاطفي والإنساني)

عانت عزيزة أمير من المرض في عام 1952، ورغم ذلك، أصرت على تصوير مشاهدها في فيلمها الأخير “آمنت بالله“. توفيت عزيزة أمير في 28 فبراير 1952، قبل أن تكمل تصوير دورها. و كنوع من التكريم الرفيع لمكانتها، اكتفى صناع الفيلم بوضع باقة من الورد في المشاهد المتبقية بدلا منها. هذا الموقف الإنساني المؤثر يعكس المكانة العظيمة التي حظيت بها عزيزة أمير في قلوب زملائها في الوسط الفني، وأن تضحيتها لم تمر دون تقدير.

سادسا: رؤى النقاد والمخرجين والزملاء: تقييم “سلطانة الشاشة”

رأي النقاد: أسطورة الفتنة والتضحية

شكلت عزيزة أمير ظاهرة فنية واجتماعية تستدعي التحليل العميق من النقاد. وقد تجسد هذا في ما قاله رائد المسرح المصري زكي طليمات عند رثائها، حيث وصف حياتها بـ “أسطورة عجيبة تدخلها من بابين“. هذان البابان هما: “المرأة ذات الفتنة الطاغية وأبدع مثال من أمثلة الجمال المصري”، و “الفنانة الموهوبة التي اشتعل قلبها ولعا بالسينما وضاعت من أجلها ثروتها”.

هذا التحليل النقدي يركز على أن إنجاز عزيزة أمير الفني لا يمكن فصله عن تضحيتها الشخصية. ففقدانها لثروتها (عمارة جاردن سيتي) لم يكن مجرد فشل مالي، بل أصبح دليلا ماديا على إخلاصها الجنوني للفن. وقد كسبها هذا المزيج من الجمال والشغف والتضحية لقب “بانية السينما في مصر“.

 

رأي المخرجين والزملاء

على الرغم من أن يوسف وهبي، الذي أطلقها، وصف طاقتها في البداية بأنها “محدودة”، إلا أن هذا الرأي ربما كان مبنيا على رؤيته لها كواجهة جذابة في البداية. لكن قدرتها على التعاون مع مجموعة من المخرجين (روستي، جلال، الريحاني، الشريعي) يؤكد مرونتها وقبولها لدى رواد الإخراج والإنتاج الآخرين.

وفيما يتعلق بـ علاقاتها بأصدقائها وبالوسط الفني، فإن عزيزة أمير كانت فاتحة الطريق لمنتجات أخريات مثل آسيا داغر، التي شاركت في فيلم “ليلى”، وهو ما يؤكد دورها كقدوة ومحفز. ورغم الخلافات الحادة التي تعرضت لها (مثل غيرة زوجة وهبي)، فإن التكريم الرمزي لها بوضع باقة الورد في آخر فيلمها يدل على المكانة الرفيعة والمحبة التي حظيت بها في أوساط زملائها.

سابعا: المقارنة المعمقة بنجوم العصر: عزيزة أمير والمشهد الفني للرواد

كما تميزت عزيزة أمير بمسارها الريادي الذي يختلف جوهريا عن نجوم عصرها، وخاصة زملائها الرجال الذين كانوا يمتلكون عادة دعما ماليا أو طبقيا أكبر، أو الفنانات اللائي اقتصرن على التمثيل.

 

الخلفية الاجتماعية والنشأة

على عكس بعض رواد المسرح والسينما الأوائل (مثل يوسف وهبي). الذين انتموا لطبقات اجتماعية أعلى و امتلكوا ثروات سهلت لهم الوصول للتعليم والسفر. فإن الميلاد والنشأة لعزيزة أمير (مفيدة غانم) كانا أكثر تواضعا، مع يضاف إليه عبء اليتم المبكر. هذا الفارق جعل صعودها يعتمد بشكل كلي على طموحها و جهدها الفردي والتضحية الشخصية. أما عن ثقافتها، فقد اكتسبت عزيزة ثقافة واسعة عبر القراءة الذاتية. وتعلم الفرنسية، والتأثيرات الغربية المباشرة (هوليوود، ليليان جيش). مدعومة بـ الحياة الاجتماعية التي نجحت في التوازن بين مجتمعات النخبة (بفضل زواجها الداعم) والوسط الفني الصاخب.

 

الحياة العاطفية والاقتصادية

كما اتسمت الحياة العاطفية لعزيزة أمير بكونها مسارا استراتيجيا متوازيا مع خدمة طموحها الفني. الزواج الأول كان دافعا للهروب وطلب الاستقلال. أما الزواج الثاني، وتحديدا من أحمد الشريعي. فكان بمثابة المفتاح الذهبي لتمويل مشروعها الأساسي “ليلى“. هذا يختلف عن نجوم عصرها. حيث لم تكن العلاقات الزوجية والنسائية بالضرورة مرتبطة بشكل مباشر بتمويل مشروعهم الفني الأساسي.

فيما يتعلق بـ الحياة الاقتصادية، كانت عزيزة أمير نموذجا فريدا. فقد أصبحت منتجة ومؤسسة لشركة “إيزيس”. وتحملت المسؤولية المالية الكاملة. كان هذا الالتزام المالي سببا في تحولها إلى “بانية السينما” و ضحيتها في آن واحد. حيث بلغت التضحية ذروتها ببيع عقارها الثمين. هذه المخاطرة المالية الكبيرة لم يكن ليتحملها غالبية زملائها. ما يؤكد ريادتها الاقتصادية في الصناعة.

 

الأداء الفني والتعاون الاستراتيجي

بينما برعت فنانات مثل أمينة رزق في الأدوار الدرامية المعقدة (على غرار دورها الذي حصلت عليه في فيلم “أولاد الذوات” بدلا من عزيزة). كان دور عزيزة أمير في أدوارها السينمائية قائما على مزيج من الجاذبية المسرحية والريادة الإنتاجية. كانت عزيزة تهدف إلى إنتاج أفلام بـ رسالة اجتماعية ووطنية.

كانت عزيزة أمير بارعة في تعاونها مع الفنانين و الفنانات. حيث عملت تحت قيادة يوسف وهبي ونجيب الريحاني. وتعاونت مع آسيا داغر في “ليلى”. هذه المرونة في التعاون مكنتها من البقاء على الساحة رغم الانتكاسات الفنية والمالية. مما يعكس حسها الاستراتيجي في التعامل مع الرواد.

 

الأهداف والتأثير والقدوة

إذا كان هدف بعض الرواد هو تثبيت الأطر الفنية أو الترفيهية. فإن طموح عزيزة أمير كان مزدوجا: إرضاء نزعتها الفنية وإثبات قدرة المرأة على القيادة والإنتاج في وجه التقاليد الصارمة. وقد امتد تأثيرها إلى المجال السياسي والقومي. وهو ما تجلى في إنتاجها لفيلم فتاة من فلسطين عام 1948. لقد كانت استراتيجيتها قائمة على دمج الفن بالرسالة الوطنية والمحلية.

ثامنا: الطموح، الإيجابيات، السلبيات، والنصيحة الخالدة

الطموح والأهداف والاستراتيجية

كان طموح عزيزة أمير يتجاوز النجومية إلى الريادة الفنية والاجتماعية. وكانت أهدافها تتمثل في تأسيس سينما وطنية حقيقية والتعبير عن المجتمع المصري الحديث. وقد اعتمدت استراتيجيتها على ركائز ثلاث:

تأمين الدعم المادي عبر العلاقات الشخصية والزواج الاستراتيجي (الشريعي).

تأسيس كيان إنتاجي مستقل (إيزيس) للسيطرة على الرؤية الفنية.

استخدام المسرح كخطة احتياطية لتمويل المشاريع السينمائية، مما يدل على مرونة عملية.

 

الإيجابيات

تتجلى إيجابيات عزيزة أمير في كونها الرائدة المطلقة للمرأة في الإنتاج والتمثيل وكتابة السيناريو. اتسمت بـ الشجاعة في دخول مجال جديد غير مقبول اجتماعيا. و قوة الإرادة التي مكنتها من تمويل حلمها حتى لو أدى ذلك إلى خسارة ثروتها الشخصية. كما كانت صاحبة رؤية وطنية واضحة في اختيار قصصها الرافضة للتقليد الأعمى.

 

السلبيات

من منظور نقدي، يمكن اعتبار التضحية المفرطة بـ الحياة الاقتصادية (بيع عقارات جاردن سيتي) سلبية حادة. حيث وضعت نفسها في دائرة دين خطرة. كما أن الاضطراب في الحياة العاطفية وبقاء “فترة مجهولة” في حياتها أضاف تعقيدا شخصيا. كان يمكن أن يعيق مسيرتها. كانت سلبيتها تكمن في تحملها للمسؤولية المالية الكاملة لمشاريع شديدة المخاطر، دون ضمانات كافية.

 

قدوتها و نصائحها الخالدة

كانت قدوتها في الفن يتمثل في نجمات هوليوود (ليليان جيش). وهو ما دفعها نحو مفهوم الإنتاج السينمائي الواسع.

إن مسيرة عزيزة أمير تقدم نصيحة غير مباشرة و خالدة لكل فنان طموح. وهي أن الشغف بالعمل الفني يجب أن يكون متوازنا مع الوعي الاقتصادي. لقد علمتنا أن الريادة الفنية مكلفة. وأن المؤسس يجب أن يتمتع بمرونة استراتيجية للعودة إلى الفنون التقليدية (المسرح). لتمويل أحلامه السينمائية الكبرى.

تاسعا: الختام: نهاية مبكرة وباقة الورد الخالدة

كانت حياة عزيزة أمير القصيرة (1901-1952) مثالا للتفاني المطلق. فقد كرست ربع قرن من حياتها للفن السابع، و حاربت على جبهتي الفن والاجتماع. لقد كانت محاربة في زمن التقاليد. تدفع كل ما تملك من أجل فنها. حتى وهي تعاني من المرض، أصرت على إنهاء فيلمها الأخير “آمنت بالله”. رحلت عزيزة أمير في عام 1952، لتترك وراءها إرثا لا يمحى. لقد كانت تلك الباقة من الورد، التي وضعت بدلا منها في آخر مشاهدها. التكريم الأبدي للمؤسس الحقيقي الذي دفع الثمن كاملا لتمكين السينما المصرية من الوقوف على قدميها كصناعة فنية ووطنية.

لقد غيرت عزيزة أمير، ببساطتها و شجاعتها و تضحيتها. وجه الفن في مصر والشرق الأوسط، وحفرت اسمها كـ “أم السينما المصرية” إلى الأبد.

قد يعجبك ايضآ
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.