يتيم بعد الستين

بقلم: الدكتور /أحمد كمال الدين حسن أحمد مقلد

 

في ليلة شديدة البرودة جلس أحد السادة المدخنين عافاك الله يا من تقرأ هذه الكلمات يدخن سيجارة وفي عادة تلقائية فتح علبة السجائر فهي بمثابة خزينة المجوهرات الثمينة لصاحبها والمتعلق بها، ومصدر تحقيق السعادة له، وعند قيامه بفتح علبة السجائر تنبه السيد المدخن أنه يحتاج إلى علبة جديدة حيث أنه قد أنهى ما لديه من مجوهرات كانت مخزونة في داخل علبة السجائر. وفي لحظات ورغم برد الشتاء خرج مسرعاً يحمل في يده ثمن علبة السجائر وفي طريقه وجد أغلب أصحاب المتاجر قد أغلقوا نتيجة البرد القارص وفي طريق السير كان هذا الشخص يتفحص الطريق رغم أنه معتاد السير فيه ويحفظه عن ظهر قلب ويحفظ تفاصيله وحتى سكانه؛ ولكن ما حدث كان عجيب ففي أحد الزوايا المظلمة سمع هذا الشخص صوت حركة وأنين وكأنه شخص بشري يبكي، فأقترب في سكون فوجده رجل مسن يلملم جسده في جلباب صيفي وينتفض من شدة البرد ووجده يحمل صورة طفل فتعجب من هذا الفعل فقال له يا عم ما يبكيك؟ وما هذه الصورة؟

فجاءت حروف الرجل متحشرجة وضعيفة نظراً لما لحق به من أحداث سيقصها فقد وضح أنه كان لديه ابن وحيد وكان يهبه الغالي والنفيس ليكون سعيداً وقد وهب هذا الرجل مالاً وفيراً فأعطي لهذا الولد بعد تخرجه صلاحيات كاملة في إدارة الشركة والأملاك وبعد فترة من العمل بهذه الطريقة، أخبر هذا الشاب والده بإيحاء من إحدى المساعدين له فهي خريجة كلية التجارة بالجامعة الأمريكية ، وذات جمال فتان وذكاء شديد، ولغتها الإنجليزية متميزة اللكنة ، وتلك المؤهلات جعلتها الأقرب لهذا الشاب، وكانت هذه الفتاة تنتسب لأب مصري وأم أمريكية لذا فإن العاطفة لديها ليست بقدر طبيعة أهلنا من المصريين. فأوحت لهذا الشاب أن يطلب من والده أن يرتاح في المنزل من عناء متابعة العمل وأن يتابع العمل من المنزل؛ ولكن بعد أن يكتب له جميع ممتلكاته حتى لا يرهقه الروتين في تنفيذ الأعمال والذي قد يستدعي حضور الشخص بنفسه، فوثق الرجل بابنه خاصة ًأنه ولده الوحيد وقد أوصته زوجته به قبل وفاتها فحافظ على تربيته ولم يتزوج مرة أخرى حتى لا تأتي من تقهر ولده وتؤذيه.

وفي هذه الأثناء كان إبليس لعنة الله عليه يتفق مع هذه المساعدة لعمل حيلة على هذا الولد فتخطف قلبه وتتزوجه، وقد فعلت ودخل هذا الولد في الفخ رغم تحذير والده له من خطورة هذه المرأة، ولكنها تعاملت بحرفية في تنفيذ مخططها، وببعض الملاطفات منها لهذا الشاب ترك لها زمام الدفة لتدير أمور العمل وذلك بعد الزواج بفترة قصيرة ، وبمجرد تسلم حبيبة القلب أمور الإدارة كتب لها هذا الشاب ما يملك هو ووالده وكانت تعطيه مصروف يومي كبير، وأوضحت له أن يستمتع بحياته وهي سوف تتحمل عنه عناء العمل .

وأتجه جموحه وكبته يوجهه ليفعل كل منكر،  فأدمن الخمر والمخدرات حتى تمكن منه الضعف وأصبح بلا فائدة، وكان الأب في هذه الأثناء قد أعجزته الشيخوخة وأمراضها. وفي يوم من الأيام الطويلة التي يقضيها هذا الرجل المسن بمفرده وجد من يحمله من السرير ويلقي به في الشارع ويلقي له بملابسه بلا رحمة، وظل يصرخ ويصرخ، ولكنهم رجال حماية سيدة الأعمال والمالكة الجديدة لكل شيء، فلم تحفظ صلة ولم ترعى حرمة دم ولا نسب ولا مرض ولا كبر سن.

وأخذ الأب يبكي أمام المنزل فلم يسمع نحيبه سوى نفسه، وقد أخذه رجال الأمن ليلقوه خارج أسوار المكان الراقي الذي يقع به فيلته وأنتظر قدوم الابن؛ ولكنها كانت الصدمة فالابن قد جاء من يبلغ الأمن في تلك الأثناء أن فلان الذي سجل عنوانه بالبطاقة على هذا التجمع السكني قد مات من جرعة مخدر زائدة. فأخبروا الأب فسار في الدنيا هائم على رأسه، وقد صار لا يملك من الدنيا إلا جلبابه، وقد حمل بين طياته أمراضه وكان يعطف عليه المارة بلقيمات يقمن صلبه وبعض الأدوية.

وحين سمع هذا الشخص المدخن القصة انهمر في البكاء وأختلط بكائه بكلمات المواساة؛ ولكن الأعجب من ذلك ما قاله الأب بعد ذلك لهذا الشخص المدخن يا ولدي لقد أخطأت حين تركت زمام البيت بدافع الحب لابني الطائش ولم أهديه نصحي وخبرة حياتي، وقد اختار من توجهه وألغى شخصيته بدافع حصوله على المتعة في أمور تعطيه إحساس بالسعادة وتفقده حياته مع الوقت حتى توفاه الله. والآن يا ولدي أين كنت ذاهب أخبرني؟ فقد أفضيت إليك بسري وسبب حزني. فقال له الشخص المدخن يا عمي لقد كنت في طريقي لألقى ولدك عند رب كريم، وقد وجهتني الآن لأراجع نفسي فليست المتعة واللذة في سيجارة أو مخدر؛ ولكنها رضاك عن نفسك وفعلك وتحقيق رضا ربك عنك بأن تكون حيث أمرك وتنتهي عما حذر ونهي منه ومن هنا أعدك أنى سأكون ابنك فهل تقبل مني هذا المبلغ لتشتري به الطعام وأعدك أني سأظل على صلتي بك.. وبعد عودة هذا الشخص لمنزله أخذ يفكر ويحكي لمن حوله ما حدث وكيف هي الدنيا وقرر أن يذهب غداً ومعه المال الكافي ليشتري الملابس والطعام ويسعد هذا الرجل في آخر عمره ويعافيه من ألم الوحدة. وفي طريقه في اليوم التالي وفي ذات المكان وجد مجموعة من الناس ملتفة حول جسد مخضب بالدماء ويعلوه ورق الجرائد وفي رفرفة ورقة الجرائد عن وجه الميت كانت المفاجأة أنه نفس الرجل المسن والذي كان بالأمس يحاوره، فبكى عليه أشد البكاء لكونه أنقذه ووجهه لتصحيح المسار والإبتعاد عن ما يؤذيه ويحقق ذاته بشكل عملي لينجح في حياته؛ ولكنه بدلاً من أن يشتري طعاماً وكساءً لهذا الرجل المسن أشتري له كفن وحمله مع أهل الخير ليدفنوه بلا أهل ولا صحبة غريبا ًعن ملكه وتاركاً الدنيا وحيداً فريداً، وأستمر البكاء وظلت الحكاية، فهل هناك من ينال العظة ؟! ، وأرجوكم أحذروا السيجارة.

قد يعجبك ايضآ
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.