بائع السعادة… بقلم/ شعبان منير

بائع السعادة

بقلم/ شعبان منير

نشأ الصبي في المنطقة وعم محمود الخردواتي له دكان يبيع فيه الخرداوات، صناديق “الاسباتس” الخشبية يضعها في فم الدكان، لكنها لا تعيق الداخل إليه… الفاترينة المربعة تجدها شامخة في الوسط.. كنا “نَشِبّ” على أقدامنا حتى نقول له على طلباتنا..
هو أصلع الرأس، يلبس نظارة مميزة من نظارات الستينيات.. تلك التي كان يلبسها عم لبيب زوج أم عباس، وأستاذ زكريا معلم العربية بمدرسة الفلاح، وأستاذ عباس وكيل المدرسة قاسي القلب!
عم محمود قصير القامة، وقد ورث هذا الطول عنه أولاده الثلاثة……
لما وجد الازدحام يكثر عليه، استعان بابن أخته “عوض”؛ كي يساعده.. شاب رفيع القَدّ، يلبس دائمًا القمصان الضيِّقة..
تجد عند “عم محمود” كلّ شيء.. الخيط والإبرة، وأشرطة الكاسيت، والكوتشينة، ولعب الأطفال، والمياه الغازية..
لأول مرة في حياتي لما وعيت على الدنيا، وفي عمر السادسة.. تسمّرت قدماي أمام فانوس رمضان الصَّاج.. الذي تكسوه القطع الزجاجية الملونة التي تأخذ العين.. ذهبت إلى أمي، وأخبرتها برغبتي في الحصول على هذ الفانوس من عند عم محمود.. أعطتْ أخي الأكبر ثمن اثنين، واحد لي والآخر له.. أما أخي الصغير، فلم يكن يعي شيئًا وقتها، فقد كان عمره أربع سنوات..
أحضر لي أخي الفانوس، فأحسست أني أملك الدنيا وما فيها.. الفانوس منظره عجيب جِدًّا بالنسبة لطفل في السادسة… له باب من الصَّاج .. فتحته، فرأيت داخله مكانًا محفورًا من الصاج.. سألت أخي، فقال: هذا مكان الشمعة..
ادَّخرْتُ ثمن خمس شمعات، وذهبت لعمّ محمود، وقلت له إني أريد شمعًا للفانوس، أعطاني خمس شمعات ملونة.. فمنها الأحمر، والأزرق، والأصفر، والأبيض.. ألوان مبهرة جميلة..أخذتني.. وفرحت بها.. توجهت للبيت.. كنت أمسك بها بحرص بالغ؛ لأنها حساسة جِدًّا للصدمات.. رقيقة جِدًّا، وعرضه للكسر!
أحضر أخي الفانوس، وأوقد الشمعة، وبحرص شديد وضعها في المكان المخصص لها، في وسط الفانوس.. جوانب الفانوس الملونة كانت رائعة.. يخرج منها الضوء الأحمر والأصفر والأزرق والأخضر.. أربعة أركان تتصارع فيما بينما على إبهار طفل في السادسة..
بعدها تبارينا، أنا وأطفال العائلة في إحضار الشمع الرفيع، وكنا نشعل الواحدة منه.. ونتبارى فيما بيننا… من يسقط نقاط الشمع الساخنة على يديه ويتحملها… ونعد تلك النقاط، ومن نحصي لديه عدد نقاط أكبر يكون الفائز.. نقطة الشمع الساخنة كانت تنزل على الجلد، فيحمرّ لها.. ولكنها بعد أن تتجمّد مرة أخرى تصبح بلا تأثير!
ذات مرة في المدرسة الإعدادية، طلب منا معلم التربية البدنية ملابس خاصة للتدريب أثناء حصة الألعاب.. عبارة عن فانلة صفراء، وشورت أخضر..
ذهبت للبحث عنها.. وجدتها عند عمّ محمود الخرداواتي.. سألت عن ثمنها، وطلبت من أبي أن يعطيني ثمنها، فأعطانيه.
أخرج الرجل الزِّيَّ الرِّياضيَّ من “الفاترينة الزجاجية”، فكنت سعيدًا جِدًّا؛ وذلك لأن الفانلة عليها صورة “محمود الخطيب” أشهر لاعب في السبعينيات، والثمانينيات بالأهلي.. ذلك النادي معشوق معظم المصريين.. ولن أقول لك عن مدى الفرحة التي ارتسمت بقلبي لما حصلت على ملابس التدريب.. ذهبت إلى البيت، وقِسْتُها، فحمد الله أنها كانت” مظبوطة” عليّ.. هذا قبل أن يمتلئ جسمي طبعًا، فقد وزنت نفسي في الصف الثالث الإعدادي، ووجدته ستين كيلو! وزنت نفسي على ميزان “طبلية” يمتلكه عم فهمي تاجر أدوات المراكب الصعيدي. أركبني عليه، وأمرني بأن أثبت، ولا أتحرّك، وكانت هناك مسطرة مقسمة إلى شرائط كل شرطة بكيلو.. كما المسطرة السنتيمترية المعروفة.. وفي آخر المسطرة تستقرّ كرة نحاسية كبيرة للتوازن.. ابتسم الرجل وقال: وزنك ستين كيلو يا “معزاوي”.. وذلك كان لقبي هو الذي أطلقه عليّ؛ لأني كنت مهتمًّا بإطعام المعيز والخراف فوق سطح بيتنا الذي يتألف من ثلاثة أدوار..
تنازل عم محمود عن نصف دكانه لأحد المستأجرين الجدد… المستأجر الجديد كانت لديه ابنة وحيدة على ثلاثة من الذكور.. اسمها سحر.. لم نفهم وقتها كيف سيكون هذا الدكان الجديد.. كان أول بوتيك في الشارع.. محل خرادوات حديث….
بوتيك عزة.. استقطب العديد من سكان المنطقة، فقد أحضر منتجات أخرى غير التي يتاجر فيها “عم محمود”، فكانت لديه الشباشب، وأدوات التجميل للسيدات، والملابس النسائية، والجيلاتي، حيث أحضر “ديب فريزر” خاص للآيس كريم، وشرائط الكاسيت للقرآن الكريم، وأشهر المطربين الجدد.. وسحب البساط من عم محمود الذي ظل يقاوم تقلبات السوق…
داوم الرجل على المجيء للدكان.. وكان معه فيسبا إيطالي عجيبة كالبطة، يحضر عليها البضاعة من الموسكي والعتبة وتحت الرَّبْع..
كَبُرَ عمّ محمود حتى بلغ السبعين، ولما كَبُرَ أولاده لم يستطع مواصلة العمل، فكان ابنه الأوسط “عماد” يحضر للدكان.. ويفتحه..
أخذ مِهْنَةَ أبيه؛ لأنه لم يجد عملًا.. ظل حوالي خمس سنوات يفتح الدكان بدلًا عن أبيه… حتى وجد عملًا..
مال أحد إخوة سحر على ورثة عمّ محمود رحمه الله، وأخذوا المحل.. وتوسع نشاطهم..
رحمك الله يا عم محمود.. يا بائع السعادة.
*شخصية حقيقية.
قد يعجبك ايضآ
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.