شم النسيم… من معابد الفراعنة إلى ذاكرة الفن والسينما
شم النسيم… من معابد الفراعنة إلى ذاكرة الفن والسينما
شم النسيم ليس مجرد عطلة ربيعية عابرة في ذاكرة المصريين، بل هو من أقدم الأعياد التي عرفها التاريخ، إذ تعود جذوره إلى نحو خمسة آلاف عام.
كتبت / ماريان مكاريوس
حين احتفل به المصريون القدماء تحت اسم “عيد شمو”، والذي مثّل لديهم بداية الحياة وتجدد الطبيعة وبعث الخصوبة. وقد ارتبط هذا العيد في الحضارة المصرية القديمة بموسم الحصاد وعودة الروح إلى الأرض، فكانوا يخرجون إلى الحقول
ويتناولون أطعمة ذات دلالات رمزية، مثل الأسماك المملحة والبصل والخس، التي كانت تقدم أيضًا كقرابين لآلهتهم، تعبيرًا عن الشكر والتقديس والاستمرار في دورة الحياة.
المؤرخ اليوناني فلوطرخس ذكر في كتاباته أن المصريين اعتادوا على هذه الطقوس في الربيع، وأنهم احتفلوا بشم النسيم كعيد للبعث والنقاء، وكان البصل يرمز لطرد الأرواح الشريرة، والخس للنقاء، والفسيخ للحياة الممتدة. وعلى الرغم من تعاقب العصور، لم يفقد هذا العيد مكانته في الوجدان الشعبي، فاستمر حضوره في العصر البطلمي، والروماني، محافظًا على طبيعته كعيد قومي لا يرتبط بعقيدة، بل بجغرافيا وهوية وطنية.
ومع القرن العشرين، تحوّل شم النسيم إلى مناسبة اجتماعية وفنية، حيث صار جزءًا من الذاكرة الثقافية التي وثقها الفنانون بأشكال مختلفة. نجوم الزمن الجميل كانوا يحتفلون بالعيد بطريقتهم الخاصة، بعيدًا عن الكاميرات تارة، وتحت عدسات المجلات تارة أخرى. فقد ظهرت الفنانة ليلى مراد في صور نادرة وهي
تتجول في الحدائق وتضحك وسط الأطفال، بينما اختار فريد الأطرش قضاء اليوم في رحلات نيلية هادئة برفقة أصدقائه على أنغام العود، فيما كانت سعاد حسني نموذجًا حيًا للبهجة المصرية، وقد بدت في مناسبات عديدة وهي تشارك الجماهير فرحتهم بالفسيخ والبصل، في مشاهد تعكس تلقائيتها وروحها العفوية.
وقد تجلّى حضور شم النسيم في السينما المصرية أيضًا، حيث تناولت العديد من الأفلام هذه المناسبة، إما كمحور درامي أو كخلفية تحتضن البهجة والمواقف الكوميدية. في فيلم “عسل أسود” مثلًا، ظهر العيد من خلال مشاهد ساخرة تسلط الضوء على الفجوة بين من عاشوا في الخارج ومن بقي على ارتباطه بالعادات المصرية الأصيلة، بينما جاءت أغنية “الدنيا ربيع” في فيلم “أميرة حبي أنا” لتصبح واحدة من أكثر أغاني شم النسيم شهرة
وقد أدتها سعاد حسني بفرح صادق جعلها نشيدًا غير رسمي للربيع. وفي “عفريتة هانم”، اجتمعت الموسيقى والرقص والبهجة من خلال أداء فريد الأطرش وسامية جمال، ليقدما معًا مشهدًا نابضًا بالحياة والموسيقى. كما يُعد فيلم “شم النسيم” الذي أُنتج في خمسينيات القرن الماضي، أحد أوائل الأعمال التي جسدت طقوس هذا العيد بصورة مباشرة، من خلال كوميديا شعبية تجسد فرحة المصريين بالخروج إلى الطبيعة، وتناول الأطعمة التراثية، والغناء وسط الزحام.
شم النسيم بهذا الامتداد الزمني ليس مجرد مناسبة موسمية، بل حالة ثقافية وإنسانية ممتدة من المعابد الفرعونية إلى أرشيف السينما المصرية، مرورًا بصفحات المجلات الفنية وصور النجوم، وأحاديث الجدات عن نزهات القناطر في زمن لم تكن فيه التكنولوجيا قد غزت تفاصيل الحياة اليومية. إنه عيد يعيد المصري إلى جذوره، ويذكّره بأن الفرح جزء أصيل من هويته، تمامًا كما كان منذ آلاف السنين.