هذا أبي

هذا أبي

 

بقلم/ وئام أحمد إمام

رمقتُ بعينِي مَنشُور علىٰ مِنصة التواصُل الإجتماعِي (الفيسبوك) لرجلٍ يطلب فيها جوارب ثقيلة كمساعدة لإحدىٰ دُور المُسنين لكبارِ السن، و يُذَكِّر فاعلي الخير بفعل الخير، فهناك مَن يُعانون من لفحاتِ البرد وتجمُّد أطرافِهم، فأيامِ الشتاء لا ترحم كبيرًا أو صغيرًا.

 

هَرعَتُ بإمساكِ هاتفي ثم قمتُ بالاتصالِ بالرقمِ المذكُور بالمنشورِ لأعرفُ ما المطلوب وما عُنوان الدار، فلقد مررتُ مؤخرًا بفترةٍ عصيبةٍ اجتاحت كلُ جوارحي وأنْسَتْ قلبي الفرح، وأدمعت عيناي حتىٰ ذَبُلَت، فنسيتُ كم من العمرِ عشتُ ولمن سأعيش.

ثم رد على اتصالي رجل أربعيني دمثُ الخُلق ذو صوتٍ رخيم، وأخبرني أنه ليس بصاحب الدار ولكنه يترددُ عليها بين الحين والآخر كفاعلٍ للخير يُقدم المُساعدة حين يستطيع ويُبلّغُ غيره ممن يُحبون الخير أيضًا، فتفضل باعطائي العُنوان ورقم الدار كي أقوم بهذه المُهمة، وكنت في لهفةٍ لفعل الخير، تَحتشِد في عقلي الأفكار التي بها استطيعُ المُساعدة لهؤلاء العجائز لعلي اتناسىٰ الشجن والحزن.

 

ارتديتُ ملابسي بخفةٍ وسرعة، بل أن خطواتي تتسارعُ عن ذي قبل، اشعر اليوم على الرغم من ملامح الحزن التي تكسو وجهي لفترةٍ طويلة، بأنني أصغر وحركتي أرشق وبوادر الفرح تتسلل لقلبي الحزين، توجهة لإحدىٰ متاجر الملابس القطنية المشهورة، لأنتقي أفضل ما عندهم من الجوارب، اختارها ثقيلة دافئة مريحة، أطلب جوربين لكلِ عجوز لأنهم فى حاجةٍ ماسةٍ إلى التدفئة والتغيير ولو بيدي لكنتُ أتيتُ بالمتجر كله لهم.

تدخُل محل صغير لبيع الأكياس البلاستيكية لتقسيم الدفعة الأولىٰ من ذلك الخير البسيط الذى سيكون بداية لخير كبير يدور في رأسها نحو هذه الدار…

تفقدتُ العُنوان مرةً أخرىٰ لأكتشف أنه بعيدٌ عني فكيف لم انتبه من قبل أنه بعيد وفي مكان متطرفٌ عما اقطن، لا بأس؛ فالخير لا يعرف الصِعاب بل الخير أساسه تذليل الطريق أمام الصعاب.

 

أخذتُ قِطار الأنفاق نحو وجهتي، أفكر في الفراغ الذي أشعر به، فغرقت عيني بالدموع التي اكبح نزولها كي لا يُلاحظ أحدٌ من الراكبين.

علىٰ بابِ الدار انتظرتُ حتىٰ فُتح لي، دخلتُ ونظرتُ حولي، فإذا بمكان متواضع متهالك الأركان مُظلم، يُلقي بالحزن والشجن في القلب، سألتُ مُشرفة المكان عن المُسنين الموجودين وطلبتُ أن أقوم بتوزيع ما لدي عليهم بنفسي فعلىٰ الرغم من طيبتي إلا أنني سيدة ناضجة مخضرمة عاملة، أعرف كيف تجري الأمور في تلك الأماكن، خاصة في مجال التطوع وأعمال الخير، كما أنني أردتُ التعرف عليهم والتحدث معهم قليلًا، فربما يثلجُ هذا من نارِ قلبي.

 

المكان تشوبه رائحة العَجَز والمرض، يفصلون الرجال عن النساء في عنابر تشبه السجون، دخلتُ عليهم واحدًا تلو الآخر، اهديتهم هديتي البسيطة بكل سعادة وهدوء فالبرد لا دين له قد نخر في عِظامهم الهشة لسنواتٍ حتىٰ غير من طباعهم منهم من استطاع أن يلبسه بنفسه ومنهم من أخذ المرض والعمر منه الكثير.

جلستُ تحت قدمي تلك المُسنة وذلك المُسن أساعدهم في إرتداء جواربهم الجديدة بكلِ ابتسامه اتلمس تلك الأقدام التي تذكرني بالماضي فينقبض قلبي، ليس فقط لتلاعُبْ الماضي بعقلي ولكن لقسوة الجِلد الذي لمسته وكأن تلك الأقدام لتماثيل خشبية وليست لبشر.

يا لهم من أبرياء ويا ليتني أتيت لهم منذ بداية الشتاء، يا ليتني عَرفتُ بحالهم من ذي قبل، فيجُول في فِكري الكثير من التساؤلات والندم، حتىٰ يقطعه صوت المُشرفة التي تريد إطلاعي علىٰ بقية الدار، فقد تستطيع الانتفاع من تلك الطيبة وقد ظهر عليها يُسر الحال.

مشيتُ بجانب المشرفة في الطرقة، استمع لشكواها بإهتمام، وأثناء الحديث أحاول أن أرمق بعيني لبعيد لأرىٰ مجموعة من الأجهزة الكهربائية المُتراصة جنبًا إلىٰ جنب (ثلاجتان، غسالتان، بوتوجاز… إلخ).

 

لم اهتم بالنظر لهم في بدايه الأمر فشدة تواضع المشهد ألهتني عن السؤال حينها ولكنني لاحظتُ شيئًا غريبًا “لماذا يضعون أوراقًا باسماء أشخاص علىٰ كل جهاز؟! تلك مَكتوب عليها “مُحمد السيد” والثانية “مُحي الدين عصام” والأخرى…. وتذكرتُ أيضًا أن المراوح بداخل كل عنبر كان مُعلّق عليها وُريقات تحمل أسماءً هي الأخرىٰ… حسنًا، شئ غريب ولكنه أضحكني ورسم ابتسامةً صغيرةً علىٰ ثغري قد غابت لشهورٍ.

فقطع أفكاري صوت المشرفة التي ردت علىٰ تساؤلاتي في الحين وكأنني كنتُ اتحدث بصوتٍ عالٍ أو ملامح تعجبي فضحتني، هذه الأوراق تحمل اسماء الناس المُتبرعين بهذه الأجهزة كل فرد يأتي بشئ للدار نكتب اسمه علىٰ ما أتىٰ به تخليدًا لاسمه وفعله الكريم وكذلك لتذكير المُسنين هنا له بالدعاء له.

 

يا إلهي بالطبع هذه أسماء المتبرعين وفاعلي الخير، كيف لم أُخمن بسرعه! ربما فقدتُ قدرتي علىٰ التركيز فالحزن أكل تركيزي، ولكن…

أستوقفني اسم مميز بالنسبة لي علىٰ إحدىٰ الثلاجات، وقد أثار فضولي أن أسأل عن صاحبه، من هو أحمد إمام؟ فأجابت المشرفة إنه “الحاج أحمد إمام” رجل خيّر وله الكثير من المساعدات المحترمة للدار، متبرع منتظم لسنوات عديدة لنا، كان يسأل دائمًا عن احتياجات الدار ويلبيها جميعها فسالتها أين هو الآن؟ فأجابت: لا نعلم ولم نسمع عنه منذ ثلاث سنوات وإنقطع مجيئه، فلم يترك أي وسيله للإتصال به سوىٰ اسمه، وقد حاولنا كثيرًا الوصول له ولكن دون فائدة، الفُضُول زاد وزادت معه دقات القلب واختناق الأكسجين في ممر التنفس،

أيمكن أن تصفيه لي؟ إنه رجل ستيني ذو قامة طويلة وعريضة كالرياضيين، لكن يبدو عليه الطيبة والسماحة والكرم وطيب الأصل… آه تذكرت وله أيضا شارب وأسمر البشرة و…

“أيُعقل؟ لا.. كيف؟.. لا لا تقولي.. ربما لا، بالتأكيد تشابُه أسماء” ارتعدتُ، تجمدت يداي ثم اتجهتُ بيدي اليمنىٰ نحو حقيبتي لأخرج شيئًا ما…. إنها صورته واعطيتها للمشرفة وأنا أرتجف بشدة وتُخرِج الكلمات بصعوبة من حلقي وتمد يدي نحوها لسؤالها أتقصدين هذا الرجل؟

أجل هو إنه الحاج أحمد أنا أعرفه جيدًا، وأنتِ من أين تعرفيه؟ وكيف حاله؟ ولماذا إنقطع عن زيارتنا؟
أجبتها والصدمة تعلو وجهي وعيني…”هذا أبي”
ابتسمت المشرفة من الصدفة العجيبة وسألتها بابتسامة عريضة “وأنتِ ابنته الصحفية أم أستاذة الجامعة فقد كان يحكي لنا الكثير عنكما؟

 

أما أنا فانفجرتُ بالبكاء كطفلةٍ صغيرة، إندهشت المشرفة وتجمع حولها كل العاملون بالدار، يتسآئلون ماذا حدث! وأنا أبكي بحرقةٍ حتىٰ خرجت من فمي كلمات متقطعة تغرقها الدموع “أبي… هذا أبي، وقد ت…تو.. توفّي مؤخرًا”.
كانت صدمة لكل الحاضرين ذٰلك الملاك الجميل الذي كان يأتي في صورة رجل كريم غاب عنهم قليلًا، فتأتي إليهم ابنته المُقرّبه إلىٰ قلبه دون أن تعلم أنه من المترددين الدائمين والعائلين لهذه الدار حتىٰ تُعلمهم بخبر وفاته في مشهد سينمائي مُحكم الكتابة والإخراج.

آه يا أبي من وجع فراقك ومن قدرك الذي علا وأرتفع عندي أكثر مما كان، يا مَن حقق ما كان يتمناه فكنتَ دائمًا تريد تحقيق المعادلة الصعبة (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له) فقد جمعت بين الأولىٰ والأخيرة، بل كنت مُعلم محنك لأجيال عديدة في مجال عملك فأنت رجل جسور وطبقت بذلك حديث الرسول الكريم برمته، بل كانت بينك وبين الله دروب وأوصال لم أعلم منها سوىٰ القليل ولكنني رأيته بأم عيني وقد شهد عليها الجميع بكل الحب والخير.

 

وفاتك يا أبي ألقت بظلمتها علىٰ قلبي الضعيف الذي كان يقوىٰ فقط بوجودك ووحدتي وشجوني زادت وقواىٰ خارت وتاهت دروبي في الحياة دونك، يا أبي ليتك تعيش هذه اللحظة حتىٰ أحكي لك ما حدث، صدفة جميلة أنعشت ذكراك في روحي، ليتك هنا تسمعني أقصها عليك كما اعتدنا سويًا، فتضحك وتضحك لي الحياة.

قد يعجبك ايضآ
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.